التعددية الاعلامية في العراق بعد سقوط النظام البعثي

من ویکي‌وحدت

التعددية الاعلامية في العراق بعد سقوط النظام البعثي تتناول هذه المقالة موضوع الصحافة والاعلام في العراق بعد سنة 2003 م،وتكشف عن قضية التعددية الاعلامية وتداعياتها على الواقع العراقي.

صورة نمطية

مدخل عام

يكتسب موضوع التعددية الإعلامية في العراق بعد سنة 2003 أهمية خاصة من أوجه عدة، فبقدر حجم المتغير السياسي وتداعياته الداخلية اقتصاديًا واجتماعيًا وثقافيًا باتجاه تغيير أنماط الحياة العراقية المكونة أصلًا من تركيبة إثنية وقومية ومذهبية مختلفة، حاولت الاستفادة من هذا المتغير إعلاميًا في التأكيد على هوياتها الخاصة كمكون ضمن النسيج الاجتماعي العراقي فالعرب الشيعة والسنة والأكراد والمسيحيون والأيزديون والشبك والصابئة المندائيون، كلٌ يريد الظفر بمكتسب ما, وهي فرصة تاريخية لتأصيل وتثبيت هوياتهم الثقافية أو القومية وعلى حساب تفتيت هوية المواطنة ضمن الوحدة الوطنية للمجتمع العراقي حتى وإن كانت هويات ثانوية طائفية.

من جانب آخر تكتسب التعددية الإعلامية أهميتها من حجم المتغير السياسي وتداعياته الإقليمية حيث وجد 150 ألف جندي أمريكي في قلب الوطن العربي وإن لم يكن بسابقة تاريخية، فوجود الأجنبي (الأمريكي) منذ عام 1990 في الكويت وقبلها قواعده العسكرية في السعودية وقطر والإمارات، ولكن المهم هنا استهداف العراق لمواقفه من الوجود الصهيوني (الإسرائيلي في فلسطين) وإن اختلفت المواقف العربية إزاء ذلك.

وهناك بعد آخر، وهو البعد الدولي حيث وجود هذه الكثافة للقوات الأمريكية وما يمكن أن يشكل من ثقل دولي حيث القرب من منابع النفط والقرب من إيران العدو الإستراتيجي لامريكا، ثقل يمكن أن يديم أحادية القطبية للنظام العالمي بوجود عسكري فعلى بعد إنهاء الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفيتي عام 1989. والتبشير بقيم العولمة، اقتصاديًا بتفويض سلطة الدولة على التجارة الحرة، وثقافيًا للترويج لنموذج القيم الأمريكية والغربية بالديمقراطية وحقوق الإنسان.

فهل حقق المنتج الثقافي والإعلامي والصحفي خصوصًا في العراق بعد 2003 بتعددية الصحف هذه دوره في عملية التنمية الشاملة أو في ديمقراطية الاتصال على مستوى المقروئية وحرية التعرض أو التعبير، أو مدى إمكانية إعداد وتهيئة الكوادر الإعلامية القادرة على تشكيل الصورة الذهنية للمواطن العراقي وفاعليته الحياتية وتفاعله مع المتغيرات السياسة والاجتماعية والثقافية كإحد أولويات الخطاب في الإعلام الدولي.


مدخل تاريخي لمميزات الصحافة العراقية

تميزت الصحافة في العراق بالتعددية الإعلامية والحرية الصحفية وعمرها في ذلك يزيد على (140) سنة، فمنذ صدور أول صحيفة عراقية رسمية وهي (الزوراء) في 16/6/1869، استطاعت أن تأخذ موقعها المتقدم في المجتمع والحياة السياسية، فلعبت دورًا مؤثرًا في الدفاع عن حقوق العراقيين منذ أواخر الحكم العثماني وحتى الآن، وفي شحذ الهمم لتحقيق استقلال العراق وحريته وبلورة الرأي العام تجاه مصالح وحقوق الشعب المختلفة كالديمقراطية والحريات العامة والانتخابات البرلمانية، كما كشفت مواطن الفساد والخلل في الحكومات المتعاقبة في العهد الملكي وبعده العهد الجمهوري (1958) كما لعبت دورًا في التثقيف وتعزيز الفكر التقدمي والديمقراطي. كما امتازت الصحافة العراقية ومنذ نشوئها وعبر مراحل تطورها في سرعة انتشارها وفى أنحاء العراق. وامتازت كذلك في تدوينها وتسجيلها لوقائع تطور العراق السياسي الوطني والاجتماعي والفكري. وقد صدرت عشرات الصحف في كل مراحل تاريخ العراق المعاصر، فعلى سبيل المثال صدرت خلال فترة الانقلاب الدستوري العثماني (1908 – 1914) 69 صحيفة وفي فترة (1918 – 1936) صدرت أكثر من 150 صحيفة ومجلة. ومنذ اندلاع الحرب العالمية الثانية (1939) حتى قيام ثورة 14 تموز(1958) صدرت أكثر من (350) صحيفة ومجلة وبلغت في العهد الجمهوري الأول (1958 – 1963), (120) صحيفة ومجلة، مثلت مختلف الاتجاهات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والدينية. لقد مرت التعددية الإعلامية والحرية الصحفية في العراق بفترات مختلفة، فمن حرية نسبية إلى تقييد لتلك الحرية ليصل إلى التعطيل أو إلغاء للامتياز, وفى عام 1967 صدر قانون الصحافة والطباعة في محاولة لتأميم الصحافة وجعلها قطاعًا حكوميًا في محاولة لإلغاء تنوع الرأي والفكر وبالتالي إلغاء حرية الصحافة, وفي عام 1969, منحت الحرية للصحافة مع إعلان 11 مارس لعام (1970) والحكم الذاتي للأكراد في كردستان، وقيام الجبهة القومية التقدمية في يوليو 1973، لكن تلك الحرية النسبية والتفاعل الديمقراطي لم يستمر. ففي 1975 شُنت الحرب مع الأكراد ليتبعها التضييق على الصحف الماركسية والديمقراطية. وبانقضاء عام 1977 لم تعد بالساحة في العلن أية صحيفة أو أي فكر سوى صحف النظام وهي معدودة (الثورة، الجمهورية، القادسية، العراق، بابل) وهي كلها تمثل وجهة نظر السلطة، وهكذا هي حال أغلب النظم الشمولية الديكتاتورية.

المتغير السياسي وتأثيره على التعددية الإعلامية في العراق بعد عام 2003

ارتبطت وسائل الإعلام عمومًا ومنذ نشأتها وحتى في كل مراحلها التطورية بعلاقة جدلية مع محركات التحديث المجتمعية المتمثلة بالعوامل (السياسية وطبيعة نظمها، والاقتصادية وطريقة إدارتها، الثقافية ومحاولة تشكيل الهوية عبر الأنساق القيمية المستمدة من الدين والعرف الاجتماعي والنوع وحتى الطبقة الاجتماعية) ولا يزال هذا الارتباط مستمرًا بين هذه المحركات ووسائل الإعلام على اختلاف أنواعها من صحافة أو تلفزيون أو إذاعة أو انترنت وحتى السينما والكتاب، فإذا كانت النظم السياسية هي الإطار الرئيسي في تحديد العلاقة بين الحاكم والمحكوم، المواطن ومؤسسات الدولة، فيما يخص الحقوق والواجبات داخليًا وعلاقة الدولة بباقي دول العالم الأخرى خارجيًا والاقتصاد في استثمار وإدارة ثروات البلاد وتسخيره لتمويل مشروعا الدولة وفق سياستها التنموية، وثقافيًا في تحديد الهوية الثقافية أو القومية عبر تبني أو تعديل أو تأصيل أنساق قيمية وثقافية خاصة بالمجتمع المعني تشكل عمومها نمط أو أسلوب حياة يمكن أن يعبر عنه بوضوح، وللإعلام في ذلك الدور الرئيسي والأساسي والمؤثر الفاعل في المحركات الثلاثة بوسائله ذات الفعالية خاصة في التأثير عبر تشكيل الصورة الذهنية والقومية التي يمكن أن يخاطب بها الآخر، ويمكن أن يؤثر به وفق أساسيات الخطاب ضمن التفاعل المجتمعي وإمكانية فهمه أو اندماجه في الأنساق القيمية المطروحة في نهضة المجتمعات وتحديثها من أجل دفع قيم التقدم إلى الأمام لبلوغ مراتب التنمية والتحضر، فبعد أن كان النظام السياسي في العراق نظامًا شموليًا منذ عام 1968-2003، حيث كان توجهه الإعلامي محددًا واضحًا مسخرًا لخدمة النظام وتجميل صورته عبر قناتين تلفزيونيتين وخمس صحف فقط، فحق الملكية لوسائل الإعلام مملوكة للدولة فقط وهي (جريدة الثورة والجمهورية والعراق والقادسية وبابل) كلها موجهة لخطاب النظام، ولم ترتق لمستوى الفاعلية في إحداث التنمية الشاملة كما كانت تروج وذلك لانشغال الدولة بكل أجهزتها بحروب عبثية مع إيران لمدة ثماني سنوات وغزو الكويت وحصار دام أكثر من اثني عشر عامًا شوه صورة العراق والعراقيين لأسباب واهية بمواقف ومزايدات عربية وعالمية، لم تستطيع مواجهة الحركة الإعلامية العالمية ولا حتى الدفاع عن مواقف وجهة النظر المتبناة، ولا توازي حجم كبت الحريات العامة وحرية التعبير مما نمى قوى المعارضة التي وجدت خارج العراق هربًا من بطش النظام وقسوته، حيث شكلوا طبيعة القوى الموجودة الآن في الساحة السياسية العراقية .عجزت الصحف الرسمية عن أن تكون سلطة الشعب بمراقبة أداء الحكومة وطرح ومناقشة مشكلاته المستعصية، وذلك لارتباطها برئاسة مجلس الوزراء قمة هرم السلطة التنفيذية

وبعد تغير النظام في 9/4/2003 واحتلال العراق من قبل القوات الأمريكية، وتمت إدارة الحكم في العراق من قبل الحاكم المدني الأمريكي (كارنر) ثم (بريمر) مع إنشاء مجلس الحكم بعضوية (25) شخصية تم اختيارها وفق المحاصصة الطائفية تولى تسعة منهم الحكم لمدة شهر، وبعدها تم استلام السيادة الصورية وتشكيل حكومة انتقالية برئاسة (إياد علاوي) وفي ديسمبر 2004، أجريت انتخابات صار بموجبها( إبراهيم الجعفري) رئيسًا للحكومة وجلال الطالباني رئيسًا للجمهورية، وفي 31 ديسمبر 2005 أجريت انتخابات برلمانية صار بموجبها نوري المالكي رئيسًا للوزراء ومحمود المشهداني رئيسًا لمجلس النواب.

وقد أصدر الحاكم المدني الأمريكي (بول بريمر) قرارًا بحل وزارة الإعلام مع وزارتي الدفاع والداخلية والأجهزة الأمنية مما خلق جملة مشاكل مستعصية كالفوضى الأمنية وعدم الاستقرار والبطالة.

لقد أسهمت تركيبة المجتمع العراقي الإثنية والمذهبية بالإضافة إلى جملة الضغوط السياسية والنفسية لكبت الحريات العامة والحرمان من التعددية على مدى الثلاثين عامًا الماضية أسهمت في ازدياد التفاعل مع المتغير السياسي الذي حصل في العراق في 4/9/2003 للأعوام الأولى من الاحتلال، لولا تدخل بعض العوامل الخارجية واستشراء الفساد المالي والإداري, والمهم هنا أن المكونات الأساسية لنسيج المجتمع العراقي وهم (العرب السنة والشيعة والأكراد والتركمان والآشوريون الصابئة واليزيديون) مكونات طالما عاشوا متآخين على مدى العصور وقد نال كل منهم نصيبه من الإقصاء وتهميش الهوية الثقافية في زمن الحزب الواحد. والهوية الثقافية كما يعرفها (كلود فايريزيو) "هي خصائص تصرفات مجموعة بشرية متجانسة نسبيًا تنعكس على طريقة العيش وسلم القيم وأساليب الإنتاج والعلاقات الاجتماعية وأخيرًا الإنتاج الثقافي والفني ووضوحها ورسوخها في الوجدان".

شكلت الأحزاب السياسية المنبثقة من هذه المكونات المختلفة النخبة السياسية الآن وهي مجموعة الأحزاب الكردية بأنواعها ما بين ليبرالية دينية وقومية وأبرزهم الوطني الكردستاني والديمقراطي الكردستاني, ومجاميع الأحزاب العربية الشيعية منهم كالدعوة والمجلس الأعلى وبدر والتيار الصدري وأحزاب أخرى ترتبط بهذه الأحزاب بمسميات مختلفة وهي جميعها أحزاب دينية، والحزب الإسلامي للعرب السنة، ومجموعة الأحزاب العلمانية والوطنية كما تحب أن تسمى نفسها، المهم أن كثرة هذه التنظيمات الحزبية جعل لكل حزب أو منظمة صحيفة خاصة به، ففي كردستان ما يقارب من خمسين صحيفة ناطقة باللغة الكردية إلا صحيفتين تصدران بالعربية وهما صحيفتا الاتحاد والتآخي. وأصدر الحزب الإسلامي مجموعة من الصحف منها (البصائر والساعة ودار السلام). وأصدر مؤتمر أهل العراق (صحيفة الاعتصام، وصحيفة المنبر والرافدين) عن هيئة علماء المسلمين ومجموعة صحف (كالعدالة وبدر) للمجلس الأعلى (والدعوة واشراقات الصدر، البينة، والعراق وبغداد والمؤتمر وطريق الشعب والمواطن والمنار وجريدة العهد والأمة العراقية والدستور وكل العراق) ومن الصحف الخاصة (الزمان والمشرق) وغيرها عشرات الصحف الحزبية الأخرى بالإضافة إلى الأعداد الكبيرة التي صدرت ولم تستطع الاستمرار بالصدور منذ 2003 حتى الآن. بعد أن حلت وزارة الإعلام وتشكيل هيئة الإعلام المستقلة أو شبكة الإعلام العراقي والسماح لأي كان إصدار صحيفة. وتملكت الحكومة حق إصدار صحيفة الصباح ومجلة الشبكة وقناة العراقية الفضائية، والصباح كصحيفة رسمية ناطقة باسم الحكومة لا الدولة، لأن أصل القانون هو ما أصدره بريمر الحاكم المدني عام 2003 وليس هناك قانون عراقي مشروع في مجلس النواب ينظم العملية الإعلامية وإجازات العمل الصحفي والإعلامي عمومًا، وحتى نقابة الصحفيين لا تملك الحق في ذلك وليس لها حتى إحصائيات بعدد الصحف التي تصدر في العراق اليوم حسب تصريح مؤيد اللامي نقيب الصحفيين العراقيين.

ولذلك عجزت الصحف الرسمية عن أن تكون ـ كما يجب ـ سلطة الشعب بمراقبة أداء الحكومة وطرح ومناقشة مشكلاته المستعصية. كما عجزت عن أن ترتقي بمستوى خطابها إلى أن تكون بمستوى الدولية سواء على مستوى مهنية كوادرها البشرية على الرغم من الإمكانات المادية الهائلة المسخرة، وذلك لارتباطها برئاسة مجلس الوزراء هرم السلطة التنفيذية وبذلك ما يحدد سياستها قطعًا وما يمكن أن يمليه عليها من شروط، ويرى المتتبع ذلك من تعاقب الحكومات الثلاث حكومة ( إياد علاوي، إبراهيم الجعفري، نوري المالكي).

المشهد الإعلامي في العراق قبل وبعد إبريل 2003

لم تعد وسائل قتل البشر وتدميرهم نفسيًا وصحيًا حكرًا على تقنيات الأسلحة التي ترصد لها الدول ميزانيات مالية ضخمة، طبقًا للدور والهدف الذي يخطط أن تلعبه، فتقنيات الاتصال والإعلام أضحت مستخدمة في الحروب الأخيرة التي خاضتها الولايات المتحدة الأمريكية لإخضاع الدول التي تخالف نهجها وسياستها لهيمنتها ونفوذها، وكشفت أن نفقات الإعلام والاتصال في الحروب تعادل نفقات وسائل القتال الميدانية الفعلية مثل الدبابة والطائرة والمدفع. وهذا يقودنا إلى باب آخر وهو؛ أن الدول أضحت تعي تأثير وسائل الإعلام والاتصال في كسب الرهان لصالحها في أوقات الأزمات والحروب.

ولأن الإعلام يشكل عصب الحياة في الوقت الحاضر، كانت الولايات المتحدة أول من أدرك هذه القدرة الخارقة لتدمير العقل العراقي وتلغيمه وحشوه بقيم ورؤى ومعتقدات تخدم مشروعها الاستعماري. وتم ذلك حتى قبل تدمير البنى التحتية العراقية التي حشدت لها حكومة الرئيس جورج بوش الابن كل تقنيات الأسلحة الحديثة من الآليات والمعدات القتالية من صواريخ ودبابات وطائرات، وجندت لها مرتزقة وجنود وعملاء دفعت لهم رواتب تقدر بمليارات الدولارات. ثم ما لبث أن لجأت لنهج تكريس سياسة تعميق الفوضى الإعلامية في العراق الذي وجدته المنفذ الفعلي لخلق إعلام طائفي تحريضي يستند إلى أسس فلسفة المحاصصة المذهبية والعرقية والدينية لتحقيق أهداف المشروع الاستعماري البعيد المدى الذي يتعلق ببناء عقلية عراقية من نوع يخالف البناء الفكري المعروف فيه.

والملاحظ في حروب الغرب بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية ضد العراق وقبلها أفغانستان، أنه تم استثمار التقنيات الرقمية الحديثة في المجالين العسكري والإعلامي، ووظفت تكنولوجيا الاتصال والإعلام في التأثير في المتلقي وتدمير معنوياته من خلال حروب الأعصاب والحرب النفسية، ولم تستعمل أسلحة الذكاء الأمريكية عسكريًا لبسط الهيمنة على المدن العراقية وتدمير القطاعات المسلحة فحسب، بل استخدمت أيضًا كأداة للترهيب والحرب النفسية, وتم استثمارها لتدمير معنويات الجيش العراقي وإثارة الفزع والخوف عند المدنيين وترهيبهم بتقنياتها الفائقة القدرة وأصواتها العالية المدوية وأساليبها التدميرية الهائلة ولجوئها إلى الإفراط بالقسوة لتهديم البيوت والتجمعات البشرية بقصد تطبيق نظرية الرعب النفسي القائمة على فكرة "الصدمة والترويع" التي ابتدعتها الإدارة الأمريكية في احتلالها للعراق لتدمير الأعصاب.

وهكذا حول الإعلام العسكري الأمريكي صور الحرب إلى مشهد تقني يشبه كثيرًا صور ألعاب الفيديو أو الكمبيوتر. ويتمثل مفهوم الرعب في كثافة وحجم القوة التدميرية صوتًا وإبادة جسدية. أما الصدمة فتتمثل في نتائج هذا الاستخدام، بحيث تتحول الأجواء إلى ما يربك العقل البشري من أفعال لم يكن يتوقعها أو شاهدها سابقًا من حيث القتل وحجم التدمير. وتترافق مع الأصوات المزعجة، وهي حالات اعتاد على معايشتها العراقيون بعد احتلال العراق في عام 2003 وعلى الرغم مما لعبته الولايات المتحدة من هذه التدابير الإعلامية النفسية الهدامة إلى جانب اللجوء إلى الآلة العسكرية، فإن العقلية العراقية (الشعبية) ما لبث أن فعلت فعلها الدفاعي المؤثر في ردة فعل عنيفة ترتكز على أرضية صلبة من القناعة والإرادة في المواجهة، إلى جانب أدوات وتقنيات إعلامية وعسكرية بسيطة بالمقارنة مع ما يمتلكه الجانب الأمريكي، فأصبحت مادة دسمة لدى وسائل الإعلام العالمية. والأكثر من هذا استخدامها لوسائل الإعلام بإطارها الشعبي، والذي حقق المفهوم الجديد القائل إن الإعلام بعد استخدامه لتقنياته الحديثة بات يعرف بـ"السلطة الخامسة" التي تكون مع الجمهور مباشرة بالصورة والكلمة، وبالصورة والصوت أيضًا من دون رتوش ومن دون تدخل حارس البوابة مثلما كان سائدًا في إعلام "السلطة الرابعة" التقليدي، بشكل أثر كثيرًا في سمعة الولايات المتحدة الأمريكية ودحض افتراءاتها وكشف حجم خسائرها وحقيقة قوتها. وساعد في تنوير العقلية العراقية بما تتدبر به القوى الغربية فسُمِّي بـ"الإعلام المقاوم"، في إطار نظرية الفعل ورد الفعل الذي لم يكن متوقعًا وفق معطيات الواقع غير المتوازن بين أكبر دولة عظمى بالعالم وتنظيمات شعبية مسلحة وأفراد يجلسون خلف جهاز الحاسوب يوزعون صور التدمير للآلة العسكرية الأمريكية.

ومن طبيعة فعل أي احتلال في العالم، وعلى مر العصور، أن يقوم بإحداث تغييرات جوهرية في البيئة التي أصبحت تحت تصرفه. ويشمل ذلك (الأرض، الإنسان، أسلوب حياة الإنسان) وهو ما درج على فعله الاحتلال الأمريكي عقب دخوله العراق مطلع 2003، وكان من ضمن الأمور التي عمل على تغييرها جذريًا هو المشهد الإعلامي، فلم يبقي صحافة أو إعلام بالعراق ولا سيما أن الحاكم المدني للعراق بول بريمر قام بإصدار جملة قرارات لإلغاء بعض الوزارات والمؤسسات، ومنها وزارة الإعلام والمؤسسات التابعة لها مثل "المؤسسة العامة للإذاعة والتلفزيون ووكالة الأنباء العراقية وصحف الثورة والجمهورية والقادسية والعراق، ومجلة ألف باء، إضافة إلى العشرات من المطبوعات والدوريات الإعلامية والثقافية، إلى جانب عشرات الصحف الأسبوعية"، ولم يكن غريبًا أن قام بدعم إصدار صحف وإنشاء محطات إذاعية وفضائيات خضعت لخط الاحتلال والنهج الجديد الذي دأب على أن يكون عليه العراق الذي سمي بـ"العراق الجديد"، بينما هو في الحقيقة "العراق المستحدث وفق النهج الأمريكي الغربي".

أبرز ما قام به الاحتلال الامريكي للعراق اعلاميا

استندت حملة بوش العسكرية إلى التمهيد المعلوماتي في ما يتعلق بإحلال الموديل الأمريكي الجديد المسوغ لمفاهيم الديمقراطية وحقوق الإنسان وحرية الرأي، وهي أهداف إعلامية مزعومة بالدرجة الاولى.

التخريب الإعلامي

إذا كان الفساد حالة شاذة، فإن الأمر الخطير هو القبول به والتعايش معه. ودائمًا نجد أن مكامن الفساد والإفساد الغربي توجه نحو الثقافة العربية بهدف إشاعة الفلسفة الذرائعية البراجماتية مقابل الفلسفة العقلانية. والقصد من ذلك محو وجود الجانب المبدئي – القيمي لدى الإنسان، وتجاوز وجود مقياس موضوعي للتمييز بين الخير والشر، هذا التوجه لا يتحقق ما لم يكن هنالك تفوق على الصُعد الاقتصادية والعسكرية وكذلك الثقافية عند أصحابه مثل توجهات كهذه لفرض الغزو الثقافي وتبريره ومحاولة إلغاء الآخر وتهميشه.

وفي المحصلة النهائية توجه تهمة للعقل العربي بالعجز في مواكبة التطور والتحديث وكذلك في عجز المثقف العربي أيضًا عن الانفتاح والتواصل مع الآخرين. بهذا الإيجاز بدأت الحملة الفكرية الغربية، ولاسيما الأمريكية منها على وجه التحديد في استعمار العراق باعتباره قمة الهرم الأهم في المنطقة، ومن ثم النزول نحو المهم في بقية بلاد العرب ومن جاورها من الدول الأخرى. لقد استندت حملة بوش العسكرية إلى التمهيد المعلوماتي في ما يتعلق بإحلال الموديل الأمريكي الجديد المسوغ لمفاهيم الديمقراطية وحقوق الإنسان وحرية الرأي، وهي أهداف إعلامية مزعومة بالدرجة الأولى، وفي استخدام مفهوم الحرب النفسية ضد المواطن للتأثير فيه ومحاولة إماتة جذوة المواجهة والصمود عنده بالدرجة الثانية، ومحاولة إسباغ صفات سلبية للطرف المستهدف والتركيز على اعتبارها واقعًا حقيقيًا بالدرجة الثالثة. ويأتي هذا التوجه مجسدًا لفكرة جوبلز وزير دعاية هتلر عندما قال "أكذب وأكذب حتى يصدقني الناس"، ومثل هذا النهج طبعًا احتاج إلى أموال طائلة لشراء عقول الضعفاء من أتباع ما أطلق عليها بـ المعارضة العراقية خارج العراق وتسخيرها لصالح مشروعها وتسخير إمكانات التكنولوجيا الإعلامية والعسكرية كافة لفرض سياسة الأمر الواقع.

هذه السياسة تواصلت ضد العراق منذُ بداية فرض الحصار الاقتصادي في السادس من أغسطس عام1990، حتى بدأ العدوان في التاسع عشر من مارس عام2003، مع ما أرادت من تطبيق نظرية التعايش مع الفساد ولو بالقوة، لكنها لم تنجح وخسرت كل شيء من سمعتها لأن جميع الأغطية التي كانت تستتر خلفها انكشفت عندما حلت بالمنطقة باحتلالها للعراق. احتل العراق في التاسع من أبريل2003 ، وكان للولايات المتحدة أن تتصرف. وكان من أوائل أهدافها التركيز على الجوانب الثقافية والفكرية. وأخذت تتبنى سياسة دعم مشاريع الصحافة والإعلام عن طريق تقديم المنح المالية للجهات والأشخاص الذين دعموا حملتها ضد العراق. وأول من تلقى الدعم الأشخاص الذين كانوا في صف المعارضة خارج العراق، ومن سخريات القدر أن نسبة كبيرة منهم لم تكن لهم علاقة لا من قريب ولا من بعيد بالصحافة، فأصبحوا رؤساء مجالس إدارات أو رؤساء تحرير لقنوات فضائية أو لصحف أو وكالات أنباء أو مواقع إخبارية، في حين تراجعت أسماء إعلامية لامعة في ساحة الثقافة والإعلام ومعروفة على الصعيد الدولي إلى مستويات متدنية، إن لم تكن عملت تحت رحمة هذه الوجوه الجديدة. واعتبر هذا اختلالًا في مهنة الصحافة، حتى ن اتحاد الصحفيين العرب سحب اعترافه بنقابة الصحفيين العراقيين لفترة من الزمن إلى أن تكشفت له الأمور، ومن ثم أعاد الوجوه الإعلامية السابقة لممارسة عملها النقابي، لكن هذا لم يغير من حالة المراقبة وصياغة القرارات وإدخال فقرات خطيرة في دستور العراق من شأنها أن تجعل الإعلام العراقي مواكبًا للحملة الأمريكية ومعارضًا للتوجهات الوطنية العراقية، وحتى لو تمكن الأمريكان من النجاح في جوانب محاولاتهم، فإن عقبات كبيرة اعترضتهم ومن يسير بركبهم من السياسيين ممن تلقوا دعمها لإنشاء صحف وإذاعات وفضائيات ومواقع إخبارية.

خطاب الإعلام المستحدث

لا شك أن الإعلام مهنة تكاد تكون أكثر من باقي المهن الأخرى تأثيرًا في نفسية الآخرين لكونها تتعامل مع حركة الإنسان وتفاعلاته، وتمنحه في لحظة ما الشهرة التي تعد رغبة الغالبية من الناس.

من هنا فإن براعة الأمريكان بهذا الجانب قديمة في دراسة النفسية الإنسانية، ولكنها مشروطة بدعم حملتهم العسكرية. وانطلاقًا من هذه المسألة هب الجميع للانخراط في ميدان الإعلام، وصدرت في الشهور الستة الأولى للاحتلال عام2003، بحدود 200 صحيفة وحوالي 70 محطة فضائية وإذاعية ومواقع إخبارية بعضها مسجل لدى نقابة الصحفيين العراقيين، وبعضها الآخر غير مرخص قانونًا، مستفيدة من الفوضى التي دبت في ساحة العراق عامة، وتحديدًا الإعلامية منها. ومن الملاحظ على الإذاعات أنها استخدمت نظام (إف إم) وهو الأسهل والأرخص من ناحية الإرسال والبث.

وبخصوص الصحف تحظى صحيفة (الصباح) الناطقة باسم الحكومة العراقية وتحظى بدعم مالي كبير من الاحتلال الأمريكي يتجاوز الـ(30) صفحة، وتوزع نحو (20) ألف نسخة في اليوم الواحد، لكنها تطبع نحو (25) ألف نسخة، ولها نسخة لكترونية على شبكة الإنترنت وتسير على نهج الفضائية العراقية، وهما تمثلان وجهين لعملة واحدة لكنهما أقل قربًا من القارئ والمشاهد العراقي لاعتماد الخط الحكومي الرسمي القريب من لغة الاحتلال الأمريكي والمبشر بعراق ديمقراطي جديد كما يحلو للبعض أن يعممه. واعتبر ذلك خطابًا إعلاميًا يجسد قناعات الاحتلال والحكومات التي يدعمها. كما تتعرضان للمقاومة العراقية بالنقد وتسبغان عليها صفة الإرهاب، وتسميان بفصاحة لسان واضحة الوجود العسكري الأمريكي وغيره على أرض العراق بالقوات متعددة الجنسيات أو الصديقة وليس جيش احتلال طالما هو مكلف بمهمة (تحرير شعب العراق) من حكومة سابقة. وفي واقع الأمر أن هذه الوسائل الإعلامية المكتوبة منها أو المرئية والمسموعة، تمثل خطاب الأحزاب السياسية والتيارات المعارضة للنظام السياسي قبل الاحتلال، إذ واكبت مشروع الاحتلال منذ بدايته، وأصبحت جزءًا منه. ولعل من المراقبين والمختصين في الإعلام الدولي من انتقدوا ذلك الالتزام ووصفوا تلك الوسائل بالأدوات الناطقة بلسان الاحتلال، فلم يشهد لها أي تغيير في خطابها لفترة ما قبل الاحتلال عندما كانت في صفوف المعارضة.

إلغاء وزارة الإعلام وتنمية الفوضى في العراق

إن المؤشر الملموس لدى المتتبع لحركة الإعلام العراقي في حقبة الاحتلال توصل إلى قناعة تامة بأن الصحف والمواقع الالكترونية والقنوات والإذاعات الفضائية وجميع المطبوعات الحزبية والمرتبطة بالأحزاب التي جاءت من الخارج تحديدًا تحاول كسب ود الاحتلال لأهداف تتعلق بامتيازات لصالح الحزب أو لصاحب الامتياز أو لديمومة مشروع التمويل للصحيفة أو القناة الفضائية الذي يجري عادة إما بنشر الإعلانات ذات الكلفة المالية العالية، أو باستلام شيكات مالية مجيرة باسم المؤسسة الإعلامية وغيرها. بينما يتوزع هذا الرقم (200) وسيلة إعلامية في غالبيته على عدد الأحزاب السياسية الموجودة في الساحة، فلكل حزب أو حركة أو تيار أو تجمع سياسي صحيفة على أقل تقدير، وكذلك فإن البعض من هذه الجهات السياسية يمتلك قنوات فضائية ومحطات فضائية. وفي هذا السياق تتجسد المقولة "أعطني صحيفة أعطك حزبًا"، وكان من أولى خطوات الحاكم المدني الأمريكي المفوض بالصلاحيات التامة بول بريمر حل وزارة الإعلام في 23 أبريل 2004، ما أفرز عددًا من الظواهر تجسدت بشكل أو بآخر في حالة الفوضى والانفلات الإعلامي الذي أصبح هو القاعدة وما غيره هو الاستثناء.

وفي كل دول العالم هناك قانون الإعلام الذي يتضمن التنظيم القانوني الخاص، إضافة إلى اللوائح التي تتعلق بوضع المهنيين وكيفية ممارستهم لنشاطاتهم من خلال المنظمات والاتحادات والجمعيات الخاصة بالعاملين في المؤسسات الإعلامية وأصحاب تلك المؤسسات، وكان العراق يخضع لها. لكنه مع حل وزارة الإعلام اختفت تلك الأنظمة القانونية، واستشرت الفوضى الإعلامية في الساحة العراقية التي أصبحت إلى حد ما شبيهة بالفوضى الأمنية والسياسية. وإن كانت في حقيقة الأمر انعكاسًا سلبيًا لها. أما على المستوى المهني، فإن الجسد الصحافي العراقي لا يملك جهازًا تمثيليًا موحدًا للصحافيين العراقيين، حيث دب الانشقاق في صفوف أهل المهنة إلى عدة تكتلات وتجمعات، ولاسيما في السنوات الأولى من الاحتلال حتى عام 2008، حيث نجحت بعض الأجندات الخارجية، ومنها الأمريكية والغربية ، باستمالة الكثير من أصحاب الأقلام من الصحفيين والكتاب والمؤسسات الصحفية إليها، من خلال التمويل. ومع ذلك فلم يدم الأمر بعد أن انكشفت الأغطية عنهم، وضغط الجماهير على كل من يسير خلف الأجنبي، لكن هذا لا يعني أن الساحة العراقية أصبحت نقية تمامًا، بل على العكس، فإنها لا تزال تحتضن الكثير من الألغام.

المصدر

مقال مقتبس من موقع:WWW.ACRSEG.ORG

ولاحظ:موسوعة السياسة ج4 ص70.

موسوعة السياسة\اعداد:مجموعة من الباحثين\اشراف:د.عبد الوهاب الكيالي\نشر:المؤسسة العربية للدراسات والنشر-بيروت\الطبعة الرابعة-1999م.