الترتّب

من ویکي‌وحدت

الترتّب: اصطلاحٌ أصوليٌ، وهو من أروع منتوجات المباحث الأصولي الذي اخترعه بعض علماء الإمامية، وهو أن يکون هناک تکليفان متزاحمان: الأهمّ والمهمّ، کالذي يذهب إلی العمرة المفردة بينما علی عاتقه دِينٌ يجب دفعه إلی الدائن؛ فهل تصح عمرته في حين أنه يجب دفع مخارج السفر إلی الدائن؟ قال بعض الأصحاب بصحة عمرته ولکن بشرطِ قصدِ المکلّف عصيانَ الأهمّ وترکه، فعند عصيان الأهمّ يکون التکليفُ المهمّ (أي العمرة) فعلياً فيصدق الامتثال فيصح عمله.

تعريف الترتّب لغةً

الترتب لغة: مطاوعة الترتيب، يقال: رتبتُه فترتّب، والأصل الرتبة والمرتبة بمعنى المنزلة، والواحدة من إثبات الدَرَج[١]، فالترتّب: تأخّر بعض الأشياء عن بعض في المرتبة والدرجة، وهو قد يكون تكوينا وذاتا ـ كما في ترتب الليل على النهار وترتب المعلول على العلّة ـ وقد يكون بالجعل والتشريع ـ كما في ترتّب فريضة العصر على الظهر، وحجّ التمتّع على عمرته وغيرها ـ .

تعريف الترتّب اصطلاحاً

وهو في اصطلاح علماء الأصول من الإمامية يطلق على تقييد خطاب التكليف المتعلّق بالمتزاحمين ـ ممّا لا يقدر المكلّف على جمعهما في مقام الامتثال لمكان المضادّة بينهما ـ بما يرتفع به غائلة التضاد؛ وذلك بتقييد المهمّ بصورة عصيان الأهمّ وتركه، أو تقييدهما معا بذلك مع تساويهما في الأهمّية وحكمه فعلية التكليف بالمهمّة مع عصيان الأهمّ[٢]. وهو من فروع باب التزاحم في أصول الفقه[٣].

تاريخ فكرة الترتّب

المستفاد من فتاوى كثير من الفقهاء في فروع التزاحم ـ كتزاحم المضيّقين أو الموسّع والمضيّق من العبادات ـ بناؤهم لحكم العبادة على نتيجة مسألة الضد في علم الأصول، فلو قيل: بأنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه العبادي فتفسد العبادة ولو قيل: بعدمه فلا تفسد؛ بناءً على دلالة النهي الغيري على الفساد في العبادة، ولذلك حكمت جماعة بالفساد[٤]، بينما حكمت جماعة بالصحّة منكرين دلالة الأمر على النهي عن الضدّ العبادي، أو دلالة النهي الغيري على فساد العبادة[٥].
ولكن نُسب إلى الشيخ البهائي أنّه حكم بالفساد حتّى بناءً على عدم دلالة النهي على الفساد، مستدلاًّ عليه بفقدان الأمر في العبادة المزاحمة بواجب أهم؛ ضرورة حاجة العبادة إلى إحراز الأمر وقصده[٦].
ولكن اُجيب عنه بأنّ الأمر الفعلي المطلق بالضدّين وإن كان غير صحيح لمكان التمانع بينهما، إلاّ أنّ الأمر بأحدهما مشروطا ومترتّبا على ترك الآخر وعصيانه ممكن، ومن أوّل من ينسب إليه هذه الفكرة المحقق الكركي في بعض المباحث الفقهيّة، حيث قال قدس‏سره: «لا نسلّم لزوم تكليف ما لا يطاق؛ إذ لا يمتنع أن يقول الشارع: أوجبت عليك كلاًّ من الأمرين، لكن أحدهما مضيّق والآخر موسّع، فإن قدمت المضيّق فقد امتثلت وسلّمت من الإثم، وإن قدّمت الموسّع فقد امتثلت وأثمت بالمخالفة في التقديم»[٧].
وأمّا التعبير عنه بما هو المعروف من مادّة (رتب) فلعلّه كان من زمن الشيخ محمّد تقي شارح (المعالم) الذي عبّر بـ (بالترتيب) إذ قال: «تعلّق التكليف بالمتضاديّن إنّما يكون من قبيل التكليف بالمحال إذا كانا في مرتبة واحدة... وأمّا إذا كانا مطلوبين على سبيل (الترتيب) بأن يكون مطلوب الآمر أوّلاً هو الاتيان بالأهمّ ويكون الثاني مطلوبا له على فرض عصيانه للأوّل وعدم إتيانه بالفعل فلا مانع منه أصلاً[٨].
كما جاء في كلام أخيه صاحب الفصول التعبير بالترتّب حيث قال: «وقد يتفصّى عن الإشكال المذكور بأنّ الأمر والنهي يجوز تواردهما على شيء واحد إذا كانا (مترتبيّن) سواء كانا نفسيين أو غيريين أو مختلفين، وإن قلنا: بأنّ التكليف بالمحال محال مطلقا؛ إذ لا يمتنع عند العقل أن يقول المولى الحكيم لعبده: اُحَرّم عليك الكون في دار زيد مطلقا، لكن لو عصيتني وكنت فيها فأنا أوجب عليك أن تكون في موضع كذا منها...»[٩]، وقد شاع الآن هذه الفكرة لدى علماء الإمامية كمصطلح معروف معلوم المراد مسمّى بفكرة (الترتّب). قال المحقّق الخراساني: «ثُمّ إنّه تصدّى جماعة من الأفاضل لتصحيح الأمر بالضدّ بنحو الترتّب على العصيان...»[١٠]. وقال المحقّق النائيني: «المسألة الاُولى في إمكان الترتّب في المتزاحمين... ، بحيث يكون إطلاق الأمر بالأهمّ على حاله، والأمر بالمهمّ يقيّد بصورة عصيان الأهمّ وتركه...»[١١]. وكذا تجد في غيرها.

الألفاظ ذات الصلة

التزاحم

وهو في الاصطلاح يطلق على حالة تعلّق التكليف بشيئين لا يتمكّن المكلّف من امتثالهما معا مع قدرته على امتثال كلٍّ منهما على حدّة، فيتحقّق التنافي بينهما من ناحية عجز المكلّف عن امتثالهما معا ـ مع عدم تناف بينهما في مرحلة الجعل والإنشاء والصدور بالذات أو بالعرض كما في التعارض ـ ومثاله تعلّق الأمر بإنقاذ غريقين أو الأمر بإزالة النجاسة عن المسجد مع الأمر بالصلاة أيضا ـ وحكمه الرجوع إلى قواعد باب التزاحم من تقديم ما فيه ملاك التقديم في مرحلة الامتثال كالأهمّية أو احتمالها في أحدهما دون الآخر.
وعلقته بمبحث الترتّب أنّ مبحث الترتب إنّما هو التكليفيان المتزاحمان ـ سواء كانا متساويين أو أحدهما أهمّ فيقع البحث في أنّه هل يمكن الحفاظ على أصل الأمر بالضدّ المزاحَم بتقييده بصورة عصيان الآخر ـ المسمّى بالأمر الترتبي ـ أو لا يمكن ذلك؟

التعارض

وهو في الاصطلاح يطلق على حالة تنافي الخطابين وتكاذبهما في المدلول، بحيث لا يمكن الحكم بصدورهما معا من مصدر الأحكام، وهو قد يكون بالذات، كما إذا ورد خطاب بـ وجوب الجمعة والآخر بحرمته أو عدم وجوبه، وقد يكون بالعرض، كما ورد أحدهما بوجوب الجمعة والآخر بوجوب الظهر في يوم الجمعة، علما بأنّ الواجب في ظهر الجمعة ليس إلاّ أحدهما فيحصل العلم بعدم صدور أحدهما فيعرض من هذه الناحية تكاذبٌ بين الخطابين. وحكمه الرجوع إلى مرجحات باب التعارض، ومع عدمها إلى التخيير شرعا أو عقلاً مع دلالة الدليل عليه وإلاّ فالتساقط والرجوع إلى سائر الأدلّة والأصول مع ما هو المفصّل في قواعد باب التعارض. ولا مجال هنا لطرح فكرة الترتّب وتقييد أحد الخطابين بعصيان الآخر؛ لمكان العلم بعدم صدور أحد الخطابين، فلا يبقى مجال للتقيّد المزبور بخلاف باب التزاحم الذي يكون المانع فيه عن المكلّف عن الامتثال فحسب فلو أمكن التقييد بما يرفع هذه المضادّة بالنسبة لحالة التزاحم فيجب الأخذ به وتقييد إطلاق خطاب التكليف بهذا المقدار، ولا وجه لرفع اليد عن أصل الخطاب كما لا يخفى.
نعم، بناءً على القول بـ التصويب، فصريح بعضهم[١٢]: إنّ رجوع الخطابين المتعارضين يكون إلى باب التزاحم؛ لفرض قيام حجّتين على حكمين واقعيين لما في كلّ منهما من الملاك والمصلحة، وقد عجز المكلّف عن امتثالهما معا، فيلحقه أحكام التزاحم التي منها جريان الترتّب عند القائلين به.

شروط الترتّب وتصويره

إنّ تصوير الأمر الترتّبي في موارد التزاحم بتقييد أحدهما أو كليهما بعصيان الآخر في مقام الفعليّة إنّما يتحقّق في موارد خاصّة دون غيرها. ونتعرّض لأهمّ موارده ضمن ما يلي:

الشرط الأول: أن يکون الخطابان فعليين

إنّ ما ذكر إنّما يتصوّر فيما إذا لم يكن الخطابان، بحيث ينتفي أحدهما بمجرّد وجود الآخر؛ إذ لو كانا كذلك، فلا يجتمع الخطابان حتّى يتزاحما في مقام الامتثال ويرفع تزاحمهما بتقييد أحدهما أو كليهما بفرض عصيان الآخر في مقام الفعلية.
وقد يمثّل لذلك بما إذا كانت القدرة في أحد الخطابين عقلية وفي الآخر شرعية ـ كالأمر بالطهارة المائية للواجد بمعنى القادر شرعا، فإذا فرضنا أنّ المولى أمر المكلّف بصرف مائه في حفظ النفس المحترمة فمجرّد ذلك يوجب خروجه عن عنوان الواجد؛ لأنّه غير متمكّن عن استعمال الماء في الوضوء شرعا، فلو عصى وتوضّأ لا يمكن تصحيحه بالترتّب؛ لأنّ الأمر بالطهارة المائية قد سقط من أصله بنفس الأمر الآخر، فلا أمر حينئذٍ فضلاً عن اطلاقه والالتزام بتقييده بعصيان الآخر، فلا يمكن تصحيحه بالترتّب ولا بالملاك عند القائلين به[١٣].

الشرط الثاني: أن يکون الواجبان مضيّقين

إنّ ما ذكر إنّما يتحقّق في الواجبين المضيّقين، وأمّا إذا كان أحدهما موسّعا والآخر مضيّقا فلا تزاحم بينهما حتّى يرتفع غائلته بالترتّب ـ كما في الازالة والصلاة ـ أمّا على مسلك المشهور فلأنّ الأمر في الموسّع عندهم إنّما يتعلّق بالأفراد المقدورة غير المبتلى بالمزاحم. نعم، شمول إطلاق الوجوب لتلك الأفراد إنّما يتمّ بالترتّب، فالترتّب في الواجب الموسّع يكون في الإطلاق وفي الواجب المضيّق في أصل الخطاب. وأمّا على مسلك المحقّق الثاني القائل بأنّ متعلّق الأمر في الموسّع إنّما هو الطبيعة دون الأفراد ـ فلأنّ الإتيان بالفرد المزاحَم إنّما يوجب سقوط الأمر بالطبيعة من باب تحقّق الطبيعة بالفرد، ومن المعلوم أنّ الطبيعة تتحقّق في ضمن الفرد ـ أيّ فرد كان ـ لأن انطباق الطبيعة على الفرد قهري، فوجود المزاحم ـ وهو الأمر بالمضيّق ـ لا يصلح مانعا عن امتثال الموسّع حتّى يحتاج إلى إصلاحه بالأمر الترتّبي كما لا يخفى[١٤].

الشرط الثالث: أن يکون الأمر الترتّبي في الضدّين

يشترط في كلّ أمر أن يكون له قابلية التأثير في الداعوية نحو ما يأمر به، فما لم يكن بهذه المثابة ـ كما إذا عُدّ الأمر الترتّبي من طلب الحاصل ـ فصدوره قبيح من الحكيم ويترتّب على ذلك أنّ الأمر الترتّبي إنّما يتصوّر في الضدّين اللذين لهما ثالث، بحيث يتمكّن المكلّف من عصيانهما معا، ومن امتثال أحدهما في فرض عصيان الآخر، وأمّا إذا كان بحيث لا يقدر على عصيانهما، أو يكون ترك أحدهما مستلزما لوجود الآخر لا محالة ـ بل لايتحقّق ترك أحدهما إلاّ بفعل الآخر ـ كما في الضدّين اللذين ليس لهما ثالث ـ كالحركة والسكون ـ فلا معنى لافتراض الأمر الترتّبي حينئذٍ كما لا يخفى؛ إذ هو من أوضح أفراد طلب الحاصل القبيح على الحكيم[١٥].

في صحة الترتّب وإمکانه

وقع الكلام والخلاف بين المحقّقين في صحّة الترتّب وإمكانه، فذهب بعضهم إلى الصحّة ولعلّه المشهور بين من تعرّض له، وبعضهم إلى عدم الصحّة. وقد مرّ أنّ المسألة كانت غير مطروحة في كلمات القدماء والمتأخّرين، ولذلك افتوا ببطلان الواجب الموسّع المزاحم بالمضيّق، فإنّ ذلك مهم وان اعتبر خلافا في المسألة الفقهية ـ أي صحّة الواجب المزبور وفساده ـ ولكن لا يعتبر خلافا في المسألة الأصولية ـ أي إمكان الأمر الترتّبي وعدمه ـ كما لا يخفى، ومحلّ الكلام الثاني دون المسألة الفقهية.
وكيف كان فالقول بالصحّة منسوب إلى المحقّق الكركي فيما مرّ من عبارته وإلى العلاّمة المحقّق الميرزا الشيرازي[١٦]. وذهب إليه صريحا جماعة منهم العلاّمة كاشف الغطاء والشيخ محمّد تقي الإصفهاني صاحب الحاشية على المعالم وأخوه صاحب الفصول والمحقّق النائيني والعراقي و السيد الخوئي[١٧].
وفي قبال هؤلاء ذهبت جماعة كـ الشيخ الأنصاري والمحقّق الآخوند الخراساني و الإمام الخميني إلى عدم الصحّة[١٨]. وعمدة دليل القائلين بالعدم ـ غير الإمام الخميني ـ أداء ذلك إلى طلب الجمع بين الضدّين العَرْضيين، وإنّما هو ملاك استحالة طلبهما عَرْضا آت في طلبهما على وجه الترتّب أيضا. قال المحقّق الخراساني: «فإنّه وإن لم يكن في مرتبة طلب الأهمّ اجتماع طلبهما، إلاّ أنّه كان في مرتبة الأمر بغيره اجتماعهما؛ بداهة فعلية الأمر بالأهمّ في هذه المرتبة وعدم سقوطه بعدُ بمجرّد المعصية فيما بعد ما لم يعص، أو العزم عليها مع فعلية الأمر بغيره أيضا لتحقّق ما هو شرط فعليته فرضا... .
إن قلت: فرق بين الاجتماع في عرض واحد والاجتماع كذلك، فإنّ الطلب في كلّ منهما في الأوّل يطارد الآخر، بخلافه في الثاني، فإنّ الطلب بغير الأهمّ لا يطارد طلب الأهمّ، فإنّه على تقدير عدم الاتيان بالأهمّ، فلا يكاد يريد غير الأهمّ على تقدير إتيان الأهمّ وعدم عصيان أمره.
قلت: ليت شعري كيف لا يطارده الأمر بغير الأهمّ؟ وهل يكون طرده له إلاّ من جهة فعليته ومضادّة متعلّقه للأهمّ؟ والمفروض فعليته ومضادّة متعلّقه له. وعدم إرادة غير الأهمّ على تقدير الاتيان بالأهمّ لا يوجب عدم طرده لطلبه مع تحقّقه على تقدير عدم الإتيان بالأهمّ وعصيان أمره، فيلزم اجتماعهما على هذا التقدير مع ما هما عليه من المطاردة من جهة المطاردة بين المتعلّقين، مع أنّه يكفي الطرد من طرف الأمر بالأهمّ؛ فإنّه على هذا الحال يكون طاردا لطلب الضدّ ـ كما كان في غير هذا الحال ـ فلا يكون له [ طلب المهم] معه أصلاً بمجال»[١٩].
وملخصّ الجواب عن ذلك: إنّ عمدة الملاك في استحالة طلب الضدّين هو أداؤهما في الواقع إلى طلب الجمع بين الضدّين مع عدم قدرة المكلّف عليه وهو محال من الحكيم تعالى، وهذا غير محقَق في المقام، بل غايته الجمع بين الطلبين، لا طلب الجمع بين الضدين.
وتوضيحه: إنّ التزاحم بين الأمرين إنّما نشأ من مبدأ واحد ـ وهو عدم قدرة المكلّف على الجمع بين الضدّين في مقام الامتثال ـ ومن المعلوم أنّ هذا التنافي إنّما هو فيما إذا كان كلّ منهما مرادا للمولى ومطلوبا له في عرض الآخر، وأمّا إذا كان أصل مطلوبية أحدهما مقيدا ومشروطا بعدم إتيان الآخر، فلا تنافي بين طلبيهما في زمان واحد، ولا بين إرادتيهما؛ وذلك لتمكن المكلف عندئذٍ من الإتيان بالأهمّ والإتيان بالمهمّ على تقدير ترك الأهمّ وعصيانه. والقائل بالاستحالة إنّما غفل عن هذه النكتة وتخيلّ أنّ فعلية طلب المهمّ وطلب الأهمّ في زمان واحد تستلزم طلب الجمع بينهما؛ لأنّ كلّ طلب يقتضي ايجاد متعلّقه في الخارج وهذا معنى طلب الجمع، ولكنّه غفل عن أنّ ذلك إنّما يتحقّق فيما إذا كان اقتضاء كلّ من الأمرين على وجه الإطلاق وفي عرض الآخر، وأمّا إذا كان اقتضاء أحدهما معلّقا على عدم اقتضاء الآخر للتأثير في الامتثال، فإنّ ذلك يقتضى التفريق في الامتثال لا الجمع بينهما كما لا يخفى.
وبعبارة اُخرى: إنّ منشأ استحالة طلب الجمع بين الضدّين إنّما هو عدم إمكان صرف القدرة الواحدة في ذلك، وهذا ممكن فيما إذا كان أحد الطلبين مشروطا بترك الآخر؛ فإنّ القدرة الواحدة تفي بهما عند ذلك، ضرورة أنّه مع صرف القدرة في فعل الأهمّ لا أمر بالمهمّ أصلاً لعدم تحقّق شرطه، ومع عدم صرفها فيه وعصيانه لا مانع عقلاً في فعل الآخر، فلا يستلزم من ثبوت الطلبين كذلك طلب الجمع بين متعلّقيهما، فطلب الجمع نتيجة إطلاق الأمرين، لا نتيجة فعليتهما مع عدم إطلاقهما أو أحدهما[٢٠].
وبعبارة ثالثة: إنّ امتناع الترتّب لابدّ وأن يرجع إلى أحد اُمور ثلاثة: الأوّل: من جهة امتناع التشريع. الثاني: من جهة التزاحم والتنافي في مقام التأثير والداعوية. الثالث: من جهة القصور في جانب الامتثال. والكلّ منتف هنا. أمّا الأوّل فلأنّ المفروض أنّ كلّ واحد من الضدّين لا استحالة في تشريع طلبه، وإنّما المحال طلب الجمع بينهما وهو غير محقّق في المقام.
وأمّا الثاني فلأنّ المفروض أنّ تأثير الثاني وداعويته ـ بل أصل مطلوبيته ـ معلّق على ترك امتثال الأوّل وعدم تأثيره، وما يكون كذلك يستحيل أن يُعدّ مانعا عن تأثير المعلّق عليه وداعويته.
وأمّا الثالث فلأنّ المفروض عدم القصور في امتثال أمرين بهذا النحو، إذ المكلّف قادر على صرف قدرته الواحدة في ما اُمر به مطلقا وعلى كلّ حال ـ وهو الأهمّ ـ كما أنّه قادر على صرفها في فعل ما يكون أمره معلقا على ترك الأوّل وعصيانه، فإنّه في هذا الفرض قادر على فعله. وليس مكلّفا بالجمع بينهما كما مرّ حتّى يترتّب عليه ذلك[٢١].
هذا كلّه على مبنى غير السيّد الإمام الخميني، وأمّا على مبناه فالترتّب مردود من أصله؛ لأنّ الترتّب إنّما جعل ذريعة لإخراج الخطابين ـ المتوجّه أحدهما إلى شيء والآخر إلى ضدّه ـ من التضادّ في مقام الطلب، ومن طلب الجمع بين الضدّين، وهذا إنّما يبتنى على القول بانحلال الأحكام المتعلّقة بالطبائع بالنسبة للأفراد المزاحمة وغيرها، والقول بأنّ للخطابات دلالة وتعرّض بالنسبة لحالات تزاحمها مع غيرها وعجز المكلّف عن امتثالها أيضا، مع أنّها بجميعها مردود وغير صحيح، مدّعيا أنّ الخطاب القانوني لا ينحل بعددت أفراد المكلّفين وبالتالي إنّ العجز الطارئ على المكلّف في مقام الامتثال لا يوجب تضادّا في ناحية التكاليف حتّى يرتفع بتقييدها ما مرّ، بل هو عذر عقلي مادام المكلّف مشتغلاً بأحد المتزاحمين المتساويين أو مشتغلاً بالأهمّ في غير المتساويين، فالقول بالترتّب في الخطابات الشرعية التي هي خطابات كليّة قانونية ممّا لا أساس له[٢٢].
والجواب عليه يبتنى على انكار المبنى المزبور، وهو يقتضي وسعة في البحث غير المقام.
ثُمّ إنّ هناك بعض التقاريب الاُخرى في تصحيح الأمرين المترتبين بلا مطاردة في البين قد لا يخلو من إشكال نتركها للمفصّلات الأصولية[٢٣].
كما أنّه قد يستدلّ على ذلك أي الترتّب بطريق الإنّ ـ وهو الاستشهاد بموارد وقوعه في الفقه، بحيث يكون إنكاره بمثابة إنكار الضرورة الفقهية، فيكشف ذلك عن إمكانه لا محالة[٢٤] ـ نترك ذكرها بما لها من الجواب لغير المقام.
كما أنّ هناك طرقا اُخرى ـ غير الترتّب ـ لتصحيح الضدّ العبادي وهو خارج عن مقصود هذه المقالة ، فراجع[٢٥].

الإيرادات الواردة على الترتّب

قد أورد على مسلك الترتّب بوجوهٍ.

الإيراد الأول: النقض باستلزام القول بالترتّب للالتزام بعقوبتين على تقدير ترك الأمرين معا

بل قد يتصوّر عقوبات متعددة لو فرض توالي الأوامر الترتبيّة المتعددة مع عصيان الجميع من المكلّف[٢٦].
كما قد يتصوّر ذلك بالنسبة لترك المستحبّات الكثيرة الواردة في بعض الليالي ـ كليالي القدر مع عدم تمكّن المكلّف على الجمع بينها ـ بناءً على القول بجريان الترتّب في المستحبّات أيضا.
وهذا في الحقيقة دليل نفي الترتب بطريق الإنّ بتقريب أنّ القول بفعليّة خطابين على نحو الترتّب وإن لم يستلزم لطلب الجمع بين متعلّقيهما في الخارج، إلاّ أنّه يستلزم تعدد العقاب على تقدير تركهما معا، وهو محال؛ ضرورة أنّ العقاب على ما لا يقدر عليه المكلّف قبيح عقلاً. وبالتالي يستكشف عدم فعلية الخطابين معا كذلك[٢٧].
واُجيب عنه بوقوع الخلط بين أن يكون العقاب على ترك الجمع بين الواجبين ـ الذي قد مرّ أنّه غير ممكن، ولكنّه غير لازم للقول بالترتّب ـ وبين أن يكون العقاب على الجمع بين التركين ـ أي ترك الأهمّ، وترك المهمّ على تقدير ترك الأهمّ، المقدور تحقّقهما من المكلّف بالضرورة ـ .
فما هو المحال إنّما هو الأوّل، ولكن القائل بالترتّب لا يقول به، وما يستلزمه القول بالترتّب هو الثاني، لكنّه غير محال، وغير قبيح؛ لقدرة المكلّف عليه، بل قد يدعى أن تعدد العقاب ـ أي الاستحقاق لا فعلية العقاب ـ حينئذٍ من المرتكزات في أذهان العقلاء[٢٨].
وقد يجاب عن ذلك بوجوه اُخرى ـ مع الالتزام بتعدد العقاب ـ كما قد يجاب عنه بإنكار الملازمة ـ أي إنكار تعدد العقاب ـ نتركها للمفصّلات[٢٩].

الإيراد الثاني: أنّ ترك المهمّ الموصل إلى فعل الأهمّ ليس بحرام

وهذا الإيراد قد ينسب إلى المحقّق الشيرازي من أنّ ترك المهمّ الموصل إلى فعل الأهمّ ليس بحرام قطعا إذ فرض حرمته حينئذٍ منافٍ لفرض أهميّة الضدّ الآخر الأهمّ. وأمّا تركه غير الموصِل ـ أي المجامع مع ترك الأهمّ ـ فنقيضه إنّما هو ترك الترك غير الموصل، لا فعل المهمّ، بل له لازمان: أحدهما الترك الموصل، والآخر فعل المهمّ، ولا يسري الحكم إلى لازم النقيض، ومع فرض السريان، أو فرض مصداقية الفعل لترك الترك يكون الفعل ـ حيث إنّه له البدل ـ واجبا تخييريّا، مع أنّ وجوب المهمّ ـ بناءً على ثبوته في فرض ترك الأهمّ ـ تعيينيّ كما لا يخفى.
وهذا البيان ـ كما ترى ـ قد فُرض فيه انحصار طريق إثبات وجوب المهمّ في إثبات حرمة تركه، مع أنّ هذا الافتراض من أصله قابل للإنكار، ولذا اُجيب عنه بأنّ إيجاب المهمّ في فرض ترك الأهمّ إنّما هو لوجود المقتضي له في هذا الفرض وهو إطلاق دليله الشامل لهذا الفرض بعد تقييده بفرض عصيان الأهمّ ـ على ما مرّ تفصيله ـ وليس من ناحية حرمة تركه كي يترتّب عليه ذلك.
مع أنّه لو فرض قيام الدليل على حرمة ترك المهمّ على تقدير ترك الأهمّ، فنقيضه الواجب إنّما هو ترك الترك على هذا التقدير ـ لا مطلقا ـ وليس لترك الترك في هذا التقدير إلاّ لازم واحد أو مصداق واحد، وهو الفعل؛ إذ لا يعقل فرض الترك الموصل في تقدير ترك الأهمّ؛ للزوم الخلف، فليس للفعل حينئذٍ عِدلٌ وبدلٌ حتّى يكون وجوبه تخييريا[٣٠].

الإيراد الثالث: إنكار مبنى الترتّب

الإشكال عليه بإنكار مبنى الترتّب، على ما مرّ إجمالاً عند نقل كلام السيّد الإمام الخميني. فراجع وقد تجد في كلمات العلماء نقوضا وردودا اُخرى نتركها للمفصّلات، فراجع.

الهوامش

  1. . القاموس المحيط: 95، لسان العرب 2: 1445 مادة: رتب، معجم مقاييس اللغة 2: 486.
  2. . أنظر: كشف الغطاء 1: 171، هداية المسترشدين 2: 271، مطارح الأنظار 1: 563.
  3. . فوائد الأصول 1 ـ 2: 335.
  4. . أنظر: المقنعة: 143، المبسوط 1: 126 ـ 127، غنية النزوع: 98 ـ 99، المهذب 1: 126، السرائر 1: 272 ـ 273، 2: 33، قواعد الأحكام الحلّي 2: 102، التذكرة 13: 13، وغيرها.
  5. . أنظر: أجود التقريرات 2: 200 ـ 203، فوائد الأصول 1: 467، زبدة الأصول 2: 29 وغير ذلك من كلماتهم في مبحث النهي عن العبادة.
  6. . مناهج الوصول 2: 30، أنظر: زبدة الأصول: و121 ـ 122.
  7. . جامع المقاصد 5: 14.
  8. . هداية المسترشدين 2: 271.
  9. . الفصول الغروية: 96، س 26.
  10. . كفاية الأصول: 134.
  11. . فوائد الأصول 1: 336.
  12. . دراسات في علم الأصول 2: 9.
  13. . أنظر: أجود التقريرات 2: 109 ـ 110، دراسات في علم الأصول الشاهرودي 2: 46 ـ 47.
  14. . أنظر: دراسات في علم الأصول الشاهرودي 2: 51 ـ 52.
  15. . أنظر: أجود التقريرات 2: 92، دراسات في علم الأصول الشاهرودي 2: 49.
  16. . أنظر: مقالات الأصول 1: 341، أجود التقريرات 1: 55.
  17. . كشف الغطاء 1: 171، هداية المسترشدين 2: 271، الفصول الغروية: 96، أجود التقريرات 1: 55، فوائد الأصول 1: 336، نهاية الأفكار 1ـ2: 375، دراسات في علم الأصول الشاهرودي 2: 39 ـ 43، المحاضرات في أصول الفقه (الخوئي) 3: 102.
  18. . مطارح الأنظار 1: 563، كفاية الأصول: 134 ـ 136، مناهج الوصول 2: 25 ـ 30.
  19. . كفاية الأصول: 134 ـ 135.
  20. . أنظر: محاضرات في أصول الفقه 3: 122 ـ 124، نهاية الدراية 1: 223 ـ 224، نهاية الأصول المنتظري 1 ـ 2: 217 ـ 218.
  21. . أنظر: نهاية الأصول المنتظري 1 ـ 2: 219 ـ 221.
  22. . أنظر: مناهج الوصول 2: 25 ـ 30.
  23. . أنظر: نهاية الدراية 1: 218 ـ 223، مناهج الوصول 2: 28 ـ 30.
  24. . أنظر: أجود التقريرات 2: 79، 86.
  25. . أنظر: تهذيب الأصول 1: 302 ـ 312.
  26. . أنظر: كفاية الأصول: 135 ـ 136.
  27. . أنظر: المحاضرات 3: 141، دراسات في علم الأصول 2: 45.
  28. . أنظر: المحاضرات 3: 142، 145.
  29. . أنظر: الترتّب محمّد رضا الشيرازي: 91 ـ 96.
  30. . أنظر: نهاية الدراية 1: 244 ـ 245.