التبادر

من ویکي‌وحدت

التبادر: اصطلاحٌ أصوليٌ بمعنی انسباق المعنی من اللفظ وسرعة حضوره في الذهن، کتبادر لفظ «صعيد» في مطلق وجه الأرض. والتبادر علامة الحقيقة في وضع الألفاظ. و الفرق بين التبادر والانصراف هو أنّ الأوّل يراد منه استكشاف الوضع وجعله أمارة عليه، بينما يراد من الثاني استكشاف المراد من اللفظ المطلق كأن يكون أحد حصصه أو بعض أصنافه بعد العلم بأصل الوضع کانصراف لفظ المسح في آيتي الوضوء و التيمم إلى المسح بباطن الكف خاصّة، فالأوّل من شؤون الوضع، والثاني من شؤون الإطلاق.

تعريف التبادر لغةً

التبادر هو الإسراع، يقال: تبادر القوم، أي: اسرعوا، وابتدروا السلاح، أي: تسارعوا إلى أخذه[١].

تعريف التبادر اصطلاحاً

عرف التبادر بأنّه فهم المعنى من اللفظ مع التجرّد عن القرينة[٢]، أو انسباق المعنى من اللفظ مجرّدا عن كلّ قرينة[٣]، أو انسباق المعنى من اللفظ، بحيث يكون سماع اللفظ موجبا لحضور المعنى في الذهن[٤].
والسبب في تقييده بقيد: «بحيث يكون»: إنّما هو لإخراج ما إذا كان الانسباق ناشئا من قرينة احتفت باللفظ، ولذا قيّده جماعة بما إذا كان ناشئا من حاق اللفظ[٥].
والتبادر هو أحد مصادر العلم بالوضع، اُستدلّ به في الفقه كثيرا لإثبات الوضع لمجموعة من الألفاظ.

الألفاظ ذات الصلة

الانصراف

وهو انسباق الذهن من اللفظ إلى بعض مصاديق معناه أو بعض أصنافه، مثل: انصراف لفظ المسح في آيتي الوضوء و التيمم إلى المسح بباطن الكف خاصّة[٦].
و الفرق بين التبادر والانصراف هو أنّ الأوّل يراد منه استكشاف الوضع وجعله أمارة عليه، بينما يراد من الثاني استكشاف المراد من اللفظ المطلق كأن يكون أحد حصصه أو بعض أصنافه بعد العلم بأصل الوضع وكون اللفظ موضوعا للمطلق، فالأوّل من شؤون الوضع، والثاني من شؤون الإطلاق.
وقد يصطلح على التبادر بـ «التبادر الوضعي» وعلى الانصراف بـ «التبادر الإطلاقي»[٧].

أقسام التبادر

يمكن أن يقسّم التبادر بلحاظات متعددة إلى عدّة تقسيمات:

التقسيم الأوّل: تقسيمه بلحاظ الجهة التي يحصل التبادر عندها

[٨].
يقسّم التبادر بهذا اللحاظ إلى قسمين:

القسم الأوّل: التبادر الذي يحصل لأهل اللغة

وهو التبادر الذي يحصل لـ أهل اللغة أنفسهم ويشهده الجاهل بالوضع الذي هو ليس منهم. ويحكم على أساس التبادر المذكور بوضع اللفظ للمعنى المتبادر، بشرط كونه ناشئا من حاق اللفظ ومن دون قرينة، وبشرط تكرره في حالات مختلفة واطّراده.
وذكر السيّد الصدر: إنّه بهذا الشرط يرجع إلى الاطّراد لا إلى التبادر نفسه[٩]. وأيا كان فهذا النوع من التبادر لايأتي فيه إشكال الدور الذي سيأتي بيانه.

القسم الثاني: التبادر الذي يحصل للجاهل بالوضع الذي هو من أهل اللغة

ومحلّ البحث في «التبادر» هو هذا القسم.

التقسيم الثاني: تقسيمه بلحاظ عموم التبادر أو خصوصه

[١٠].
يقسّم التبادر بهذا اللحاظ إلى قسمين:

القسم الأوّل: التبادر الشخصي

وهو التبادر الذي يحصل لشخص معيّن نتيجة ظروف وملابسات أحاطت به. وهذا التبادر خاصّ بذلك الشخص ولم يُعلم بعدُ حصوله عند غيره من أهل اللغة.

القسم الثاني: التبادر النوعي

وهو التبادر الذي يحصل لعموم أهل اللغة ولايختصّ بشخص دون آخر.
والبحث في التبادر يتمرکز حول هذا القسم، أمّا القسم الأوّل فيدور أمره بين احتمالين، أحدهما: أن يكون التبادر ناشئا عن قرينة خاصّة به، فهنا لا طريق لنفي الاحتمال المذكور إلاّ بالفحص والتأكّد من عدم وجودها فعلاً، ثانيهما: أن يكون ناشئا من ملابسات خاصّة أحاطت بذلك الشخص، وهذا الاحتمال مادام موجودا لايمكن إحراز الكشف الإنّي عن الوضع، لكن يمكن بواسطة أصالة التطابق بين الظهور الشخصي وبين الظهور النوعي إثبات كون المتبادر المذكور كاشفا كشفا إنيا عن الوضع.

التقسيم الثالث: تقسيمه بلحاظ المنشأ

[١١].
يقسم التبادر بلحاظ منشأ حصوله إلى قسمين:

القسم الأوّل: التبادر الإطلاقي

وهو التبادر الذي ينشأ من خارج علاقة اللفظ بالمعنى أمّا بالأنس الذهني أو كثرة الاستعمال أو غلبة الوجود، وغير ذلك من المناشئ التي تذكر له.
وهذا القسم من التبادر يصطلح عليه بـ «الانصراف» وهو كاشف عن كون المعنى المتبادر إليه اللفظ مرادا للمتكلّم ولايكون كاشفا عن الوضع.

القسم الثاني: التبادر الوضعي

وهو الذي ينشأ من حاق اللفظ. وهذا التبادر هو الذي يمكن أن يكون مصدرا من مصادر الوضع وأمارة عليه، وهو موضع البحث هنا.

حكم التبادر

لا بدّ في مقام الاستنباط من فهم نصوص الشارع ومعرفة ما تدلّ عليه، فيجب حملها على معانيها الحقيقية وتمييزها عن المعاني المجازية لكيلا يختلط الأمر، فعلى سبيل المثال يجب على المجتهد تحديد معنى «افعل» وهل وضعت لخصوص الطلب الوجوبي أو للاعم؟ وتحديد معنى كلمة «الصعيد» الواردة في آية التيمم هل وضعت لمطلق وجه الأرض أو لخصوص التراب الخالص؟ وغير ذلك من الموارد. فوضع الأصوليون أمارات لمعرفة الوضع ومنها التبادر، ووقع البحث في أنّ تبادر المعنى من لفظ هل يدلّ على كونه موضوعا له، وعدم تبادره منه هل يدلّ على كونه مجازا فيه؟
ذهب الأكثر إلى أنّ التبادر علامة الحقيقة وعدمه علامة المجاز[١٢]، وذكروا في تقريب ذلك: إنّ تبادر معنى من لفظ مّا لا بدّ وأن يكون له سبب، وهذا السبب إمّا أن يكون هو المناسبة الذاتية بين اللفظ والمعنى، وإمّا أن يكون هو القرينة الحالية أو المقالية، وإمّا أن يكون هو العلقة الوضعية، والأوّل باطل لبطلان المناسبة الذاتية، كما هو مذكور في حقيقة الوضع، والسبب الثاني المفروض أنّه منتفٍ؛ لأنّ الكلام في التبادر الناشئ من حاق اللفظ لا من القرائن، فبقي السبب الثالث وهو العلقة الوضعية بين اللفظ والمعنى، وبذلك يثبت الوضع[١٣].
وقد أورد على التبادر عدّة إيرادات:
منها: الدور، حيث إنَّ التبادر لايمكن حصوله من دون سبق علم بالوضع فلابدّ من العلم بالوضع أوّلاً حتى يحصل التبادر من اللفظ، فلو أُريد استكشاف العلم بالوضع من نفس التبادر لزم الدور وتوقّف الشيء على نفسه[١٤].
وعلى أساس هذا الإيراد ذهب جماعة إلى عدم علامية التبادر وعدم استكشاف الوضع منه[١٥].
واُجيب عن الدور المذكور بعدّة أجوبة[١٦]، أهمّها ما ذكر من أنّ الذي يتوقّف عليه التبادر هو العلم الارتكازي بالوضع وهو العلم المجامع للغفلة وعدم الالتفات تفصيلاً إلى المعنى الموضوع له اللفظ، فإنّ الفرد عندما يعيش بين أهل اللغة ترتكز في ذهنه مجموعة من المعاني، من دون أن يعلم حيثياتها تفصيلاً، فيكون التبادر ناشئا عن هذا العلم، والذي يتوقّف على التبادر هو العلم التفصيلي بالوضع، أي العلم الارتكازي التبادر العلم التفصيلي[١٧].
وذهب السيّد الصدر إلى أنّ الإيراد المذكور لايمكن دفعه بناء على مبنى المشهور في الوضع (نظرية الاعتبار)، وأنّ اشكال الدور وتوقّف الشيء على نفسه قائم، ولايرد على مبناه في الوضع (نظرية القرن الأكيد)؛ لأنّ الدور مبتنٍ على افتراض توقّفه على العلم بالوضع، في حين انه بناء على نظرية القرن الأكيد نفس الوضع كافٍ في حصول التبادر ولايتوقّف على العلم بالوضع، فالطفل الذي تقترن لديه كلمة «ماما» برؤية اُمه يتبادر عنده ذلك بمجرّد سماع اللفظ المذكور مع عدم كونه عالما بالوضع، فالتبادر متوقّف على وجود الاقتران الأكيد، والذي يتوقّف على التبادر هو العلم التفصيلي بالوضع، أي القرن الأكيد التبادر العلم التفصيلي بالوضع، فلا دور[١٨].
ومنها: عدم اطّراده في المجاز المشهور وفي المنقول، فإنّ اللفظ يتبادر منه ذلك، من دون قرينة مع عدم كونه حقيقة فيه؟[١٩]
وأُجيب عنه بأنّ التبادر في المجاز المشهور حصل بسبب قرينة الشهرة لا من حاق اللفظ[٢٠]، وأنّ المنقول حقيقة فيما نقل إليه والتبادر علامة الحقيقة فيه[٢١].
ومنها: النقض عليه باللفظ المشترك، فإنّه حقيقة في معنييه أو معانيه مع عدم تبادر أي منها بدون القرينة المعيّنة للمراد[٢٢].
وأجيب عنه: بأنّ المفروض كون المشترك حقيقة فيما وضع له من معاني ولايضرّ فيه عدم تبادرها من دون قرينة معينة، فلايقضى بانتقاض العلامة المذكورة؛ لأ نّها قد تكون أخصّ موردا من ذيها[٢٣].
وعلى ضوء الإيراد المذكور غير بعضهم العلامة المذكورة، فجعل عدم تبادر الغير هو العلامة حتّى لاينتقض عليه بالمشترك لعدم تبادر الغير منه[٢٤].
وغير ذلك من الإيرادات التي يمكن أن تذ كر على علامية التبادر[٢٥].
وذكر جماعة في مقام الايراد على علامية التبادر، بإنّه إنّما يكون علامة على الوضع في زماننا ولايكون علامة عليه في زمان الشارع حتّى يحمل عليه ما ورد من النصوص في زمان الشارع، لاحتمال تغيير المعنى المتبادر عليه في زماننا عمّا كان عليه في زمان الشارع ومع وجود مثل هذا الاحتمال لايمكن القطع والعلم بالوضع. نعم، يمكن بمقتضى أصالة عدم النقل والتي قد يعبّر عنها بأصالة تشابه الأزمان إثبات التطابق بين ما هو المتبادر من اللفظ في زماننا وبين ما هو الموضوع له في زمان الشارع وعدم نقل المعنى عمّا كان عليه من معنى اللفظ[٢٦]. وذكر النراقي: إنّه بدون الاعتماد على أصالة عدم النقل لانسدّ باب استنباط الأحكام من النصوص الشرعية، ولا طريق لإحراز الوضع إلاّ بالاستناد إلى الأصالة المذكورة[٢٧].

شروط التبادر

ذكروا أنّ من شروط التبادر أن يكون ناشئا من حاق اللفظ لا من عوامل خارجية احتفت اللفظ كالقرائن الحالية أو المقالية، ولابدّ من إحراز ذلك حتّى يصحّ الاستناد إلى التبادر في إثبات الوضع[٢٨]. ولذا ذكر المحقّق القمّي: لزوم الفحص والتتبع لاستبيان حال الألفاظ الذي يدّعى وجود التبادر فيها[٢٩].
ومع قيام احتمال وجود قرينة احتمالاً معتدا به عند العرف والعقلاء لايمكن الاستناد إلى التبادر لإثبات الوضع، و أصالة عدم القرينة غير جارية في المقام؛ لأنّها إنّما تكون في إحراز المراد لا إحراز الوضع[٣٠].

الهوامش

  1. . الصحاح 2: 586 مادّة «بدر».
  2. . مناهج الأحكام والأصول: 15.
  3. . أصول الفقه المظفر 1 ـ 2: 69.
  4. . حقائق الأصول 1: 42.
  5. . أنظر: هداية المسترشدين 2: 523، منتهى الأصول 1: 40، نهاية الأفكار 1 ـ 2: 66.
  6. . أصول الفقه المظفر 1 ـ 2: 242.
  7. . أنظر: هداية المسترشدين 1: 673، منتهى الدراية 1: 319 ـ 320.
  8. . من تجارب الأصوليين في المجالات اللغوية: 44.
  9. . بحوث في علم الاُصول الهاشمي 1: 166.
  10. . المصدر السابق 1: 166 ـ 167.
  11. . أنظر: الفوائد الحائرية: 324، تقريرات المجدد الشيرازي 1: 90 ـ 93، كتاب البيع الخميني 4: 232، 235.
  12. . أنظر: المحصول 1: 148 ـ 149، الإحكام الآمدي 1 ـ 2: 29، الإبهاج في شرح المنهاج 1: 320، مناهج الأحكام والأصول: 15، القوانين المحكمة: 6، كفاية الأصول: 18، من تجارب الأصوليين في المجالات اللغوية: 43.
  13. . أنظر: أصول الفقه المظفر 1 ـ 2: 68 ـ 69، مصباح الأصول 1 ق 1 : 110.
  14. . أنظر: مناهج الاحكام والأصول: 16، الفصول الغروية: 33، هداية المسترشدين 1: 227.
  15. . منتهى الدراية 1: 97.
  16. . أنظر: نهاية الدراية 1: 78، بحوث في علم الأصول الهاشمي 1 : 164.
  17. . أنظر: هداية المسترشدين 1: 227، كفاية الأصول: 18.
  18. . بحوث في علم الأصول الهاشمي 1: 166.
  19. . أنظر: الإحكام الآمدي 1 ـ 2: 29، الإبهاج في شرح المنهاج 1: 320، مناهج الأحكام والأصول: 16.
  20. . أنظر: الإحكام الآمدي 1 ـ 2: 29 ـ 30، مناهج الأحكام والأصول: 16.
  21. . الإبهاج في شرح المنهاج: 1: 320.
  22. . أنظر: الإحكام الآمدي 1 ـ 2: 29، الإبهاج في شرح المنهاج 1: 320، مناهج الأحكام والأصول: 16.
  23. . أُنظر: هداية المسترشدين 1: 236.
  24. . أُنظر: المصدر السابق.
  25. . أنظر: مناهج الأحكام والأصول: 16، الفصول الغروية: 32 ـ 33.
  26. . أنظر: نهاية الأفكار 1 ـ 2: 67، مصباح الأصول 1 ق1: 111.
  27. . مناهج الأحكام والأصول: 28 ـ 29.
  28. . أنظر: كفاية الأصول: 19.
  29. . القوانين المحكمة 1: 56 ـ 57 .
  30. . كفاية الأصول: 19.