اجتماع الحكمین التكلیفیین

من ویکي‌وحدت

موضوع إجتماع الحکمین التکلیفیین من المباحث التي اختلف الاصولیون علی جوازه واستحالته، مثل اجتماع الوجوب والحرمة الذي یعبر عنه باجتماع المتضادین، أو إجتماع الوجوب مع وجوبٍ آخر الذي یعبر عنه باجتماع المتماثلین، أو إجتماع الوجوب مع الإستحباب أو الکراهة و ما إلی ذلک، فهل یجوز إجتماع الحکمین التكليفيين على موضوع واحد أو لا؟

التعریف بالموضوع

وهو اجتماع حكمين تكليفيين على موضوع واحد، سواء أكانا متضادين أو متماثلين، مع اتحاد المكلّف والحيثية المكلَّف بها وزمان الامتثال. وهذا هو القدر المسلَّم من مسألة اجتماع الحكمين[١] وأمّا الحكمان الوضعيان فليسا منظورين في كلمات الأعلام؛ لأ نّهما ليسا على نسق واحد، فقد يجتمعان وقد لايجتمعان، كما يأتي بيانه لاحقا.

السابقة التأريخية

يبدو أنّ مسألة استحالة اجتماع الحكمين لم تكن مطروحة لدى قدماء الأصوليين، إلى أواسط القرن الخامس الهجري عندما تحدّث السيد المرتضى[٢] عن التضاد بين الأحكام، ثمّ جاء بعده شمس الدين السرخسي الذي كان أكثر وضوحا منه، عندما صرّح باستحالة تضمن شيء واحد لحكمين متضادين. [٣] وتطورت هذه الفكرة، وأخذت تتفاعل في الأوساط العلمية، وكثر الكلام عن كيفية التخلص من محذورها في مناسبات مختلفة ومسائل متعددة كمسألة التعارض والتزاحم، واجتماع الأمر والنهي، واجتماع الحكم الظاهري والواقعي. ولم تكن هذه الفكرة بعيدة عن أفكار المتقدمين، كيف وهي من البديهيات[٤] التي لايختلف فيها اثنان، ولعلّ عدم تعرضهم لها لأنّها ـ باعتقادهم ـ كسائر المسائل الأخرى، التي لم يجدوا ضرورة لطرحها أو الإشارة إليها في ذلك الزمان.

الألفاظ ذات الصلة

تداخل الأسباب والمسببات:

وهي عبارة عن صيرورة الأسباب والمسببات المتعددة كالسبب والمسبب الواحد، كما لو قيل: إذا نمت فتوضأ، وإذا بلتَ فتوضأ، فإنّه لايجب على المكلّف إلاّ وضوء واحد؛ بناءً على التداخل[٥]، ووضوءان؛ بناءً على عدم التداخل. [٦]

الامور التي تتضح منها محل النزاع

الأمر الأول: التنافي بين الأحكام التكليفية الواقعية

لا خلاف بين طوائف المسلمين[٧] ـ إلاّ من شذ منهم[٨] ـ في امتناع اجتماع حكمين تكليفيين في متعلق واحد. واستدلّ له بعض علماء الجمهور[٩] بقوله تعالى: «لاَيُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا».[١٠] وهذا الدليل إنّما يتناسب مع عدم إمكان الجمع بين الوجوب والحرمة، دون اجتماعهما مع غيرهما كاجتماع الوجوب مع الإباحة، أو الحرمة والكراهة؛ لإمكان الجمع بين متعلقيهما. ومن هنا فقد أكّد المحقّق النائيني على أنّ عدم الاجتماع لا دليل عليه من الشرع، بل لابدّ من الاستدلال له من العقل. [١١] والمعروف[١٢] بينهم أنّ سبب عدم الاجتماع هو التضاد بين الأحكام التكليفية[١٣]، بل اعتبر ذلك بعضهم من المسلّمات[١٤] بل من البديهيات. [١٥] وهذا التضاد كما هو موجود بين الوجوب والحرمة موجود بين سائر الأحكام الأخرى، وإنّما خصّهما بعضهم[١٦] بالذكر لشدة التضاد بينهما[١٧]، فإنّه كما لايجتمع الوجوب مع الحرمة لايجتمع مع الاستحباب؛ لأنّ في الوجوب مصلحة ملزمة وفي الاستحباب مصلحة غير ملزمة، وهكذا بالنسبة للحرمة والاستحباب وغيرهما من أحكام. [١٨] وما يتراءى من اجتماع بعض الأحكام، كالوجوب والاستحباب، فهو لكونهما حكمين لجهتين لكلّ منهما حكمها، كإطاعة الوالدين الواجبة المجتمعة مع إجابة الصديق المستحبة في فعل واحد[١٩]، فهما من قبيل حرمة النظر إلى الأجنبية في الصلاة الواجبة، فإنّ متعلق التحريم فيها هو النظر، ومتعلق الوجوب الصلاة، وهو ليس من الاجتماع المحال. [٢٠] وفي مقابل ذلك ذهب جماعة من الأعلام[٢١] إلى عدم صحة الاستدلال بالتضاد على عدم اجتماع الأحكام، كالمحقّق الأصفهاني[٢٢] والإمام الخميني[٢٣]؛ لعدم انطباق تعريف المتضادين عليها؛ لأنّ المتضادين عبارة عن الوجودين المتعاقبين على موضوع واحد بينهما غاية الاختلاف، من دون توقف تعقل أحدهما على الآخر. [٢٤] وهما بهذا المعنى لايصدقان على الأحكام التكليفية الخمسة. وقد بيَّن الإمام الخميني سبب عدم انطباق التعريف من وجهة نظره، حيث قال: «إنّ التعريف المذكور لاينطبق على الأحكام، أمّا على القول المختار بأنّ الأحكام عبارة مثلاً عن البعث والزجر المنشئين بالآلات والأدوات فواضح جدا؛ لأنّ البعث والزجر بالهيئة الدالة عليهما إنّما هو بالمواضعة والاعتبار، وهما ليسا من الأمور الوجودية الحالّة في موضوعها الخارجي، بل أمور اعتبارية عقلائية، وهم يرون البعث بالهيئة مكان البعث التكويني، لكن بحسب الوضع والاعتبار القائمين بنفس المعتبر قياما صدوريا. وأمّا على القول بكونها عبارة عن الإرادات أو عن الإرادات المظهرة فكذلك أيضا؛ لأنّ الشرط كون الأمرين الوجوديين الداخلين تحت جنس قريب، وعليه لابدّ أن يكونا نوعين مستقلين، مع أنّ إرادة البعث والزجر داخلتان تحت نوع واحد، ومعه كيف تصيران متضادتين... فإنّ الإرادات ليست أنواعا مختلفة تحت جنس قريب، أمّا الواجب والمستحب، وكذا الحرام والمكروه فواضح؛ لأنّ الإرادة الوجوبية والاستحبابية مشتركتان في حقيقة الإرادة ومتميزتان بالشدة والضعف، فإذا أدرك المولى مصلحة ملزمة تتعلق بها الإرادة الشديدة وينتزع منها الوجوب، أو أدرك مصلحة غير ملزمة تتعلق بها الإرادة لا بنحو الشدة، بل بنحو يستظهر منها الترخيص في الترك وينتزع منها الاستحباب، وقس عليهما الحرام والمكروه ...». [٢٥] ولكن يبقى هنا سؤال حول سبب الامتناع إذا لم يكن هو التضاد؟ حيث أجاب عليه الإمام الخميني بقوله: «إنّه بناءً على القول بكون الأحكام أمورا اعتبارية فسرُّ عدم اجتماع الوجوب والحرمة هو لغوية الجعلين غير الجامعين، بل امتناع جعلهما لغرض الانبعاث؛ لأنّ المكلّف لايقدر على امتثالهما، وكذا على القول بكونهما عبارة عن الإرادات؛ لامتناع تعلق الإرادة بالبعث إلى العمل والزجر عن الفعل [فهو من قبيل] تعلق الإرادة بالطيران إلى الهواء، فعدم الاجتماع أعمّ من التضاد».[٢٦] هذا بالنسبة إلى سبب الامتناع، وأمّا المرحلة التي يمتنع فيها الاجتماع من مراحل الحكم التكليفي ـ التي هي المصلحة والاقتضاء والإنشاء، والفعلية والتنجز[٢٧] ـ فقد اختلف الأصوليون فيها، فمنهم من ذهب إلى امتناع الاجتماع في جميعها[٢٨]، ومنهم من حصره ببعضها[٢٩]، ويتضح ذلك من خلال استعراضنا لهذه المراحل، وذلك كما يلي:

1 ـ مرحلة المصلحة والاقتضاء

وهي المرحلة التي تبتني على أساسها الأحكام التكليفية. وقد نفى بعض حصول التضاد بينها في هذه المرحلة؛ لإمكان أن يكون الشيء ذا مصلحة ومفسدة في آن واحد. [٣٠] بينما أكّد بعض آخر على حصوله في هذه المرحلة، إذ ليس المراد مجرد كون الشيء ذا مصلحة أو مفسدة، بل المراد أن يكون أحدهما غالبا والآخر مغلوبا، فلا يكون الفعل محرّما مثلاً إلاّ إذا كانت مفسدته غالبة على مصلحته، ولايكون واجبا إلاّ إذا كانت مصلحته غالبة على مفسدته.[٣١]

2 ـ مرحلة الإنشاء والجعل

وهي مرحلة جعل القانون وتشريعه. والمعروف إمكان اجتماع الأحكام فيها؛ فإنّ الجعل والإنشاء لايخرجان عن الاعتبار، وهو خفيف المؤونة يمكن إنشاء الأحكام فيه بصور مختلفة؛ إذ لاتنافي في الاعتبارات لو جردت عن ملاكاتها[٣٢]؛ لأنّ التضاد إنّما يطرأ على الموجودات التكوينية الخارجية كالسواد والبياض؛ خلافا للأمور الاعتبارية التي لا واقع لها سوى اعتبارها. [٣٣] وأورد عليه بأنّ هذا الكلام لايمكن قبوله بناءً على تفسير المشهور للإنشاء بإيجاد المعنى باللفظ واستعماله بقصد تحقق الاعتبار العقلائي، إذ لايمكن تحصيل هذا الاعتبار بعد اعتقاد العقلاء عدم إمكان الاجتماع. [٣٤] نعم، لو أخذنا بالتفاسير الأخرى[٣٥] للإنشاء التي لم يلحظ فيها الاعتبار العقلائي صحّ القول بإمكان اعتبار أحكام متضادة في شيء واحد؛ لكون الإنشاء حينئذٍ خفيف المؤونة. [٣٦] ولابدَّ من الإشارة إلى أنّ ما يظهر من بعض، كالسيد الخوئي من نفي التضاد بين الأحكام فإنّه ناظر إلى هذه المرحلة بالخصوص؛ لاعترافه بالتضاد في مراحلها الأخرى؛ فهو وإن أكّد في موضع من كلامه على: «أنّ حديث تضاد الأحكام بعضها مع بعضها الآخر في نفسها، وإن كان أمرا معروفا بين الأصحاب قديما وحديثا، إلاّ أ نّه ممّا لا أصل له؛ وذلك لما حققناه من أنّ الأحكام الشرعية أمور اعتبارية، فلا واقع لها ماعدا اعتبار من بيده الاعتبار».[٣٧] لكنَّه نبّه في موضع آخر منه على أنّ: «المضادة بين الأحكام من ناحيتين: الأولى: من جهة المبدأ ... الثانية: ومن جهة المنتهى...». [٣٨]

3 ـ مرحلة الفعلية والبعث

وهي مرحلة بعث المكلّف أو زجره عن القيام بالفعل مع عدم وصول التكليف إليه بحجّة معتبرة. وقد عبَّر بعضهم عن هذه المرحلة بمرحلة الإرادة والكراهة. [٣٩] وفي هذه المرحلة اختار جماعة[٤٠] عدم إمكان الاجتماع أيضا؛ إذ مع امتناع اجتماع الإرادة والكراهة على شيء واحد لايمكن اجتماع البعث والزجر الناشئين منهما؛ لعدم إمكان أن يكون الشيء محبوبا ومبغوضا في آن واحد، فلا يكون واجبا إلاّ إذا كان محبوبا، ولايكون محرّما إلاّ إذا كان مبغوضا، بناءً على مذهب العدلية في هذا المجال. [٤١] وخالف في ذلك جماعة منهم المحقّق الأصفهاني[٤٢] مدّعيا عدم التضاد بينهما؛ لأنّ التضاد من الأوصاف الخارجية العارضة للأمور العينية كالسواد والبياض، وليست الإرادة والكراهة كذلك؛ لأ نّها من الأمور النفسانية العارضة على النفس؛ فلا تضاد بينهما، لا من ناحية الموضوع الذي هو النفس، ولا من ناحية المتعلق الذي هو الأفعال. أمّا من ناحية الموضوع؛ فلأنّ النفس حقيقة مجردة قابلة لاجتماع إرادات وكراهات مع تعدّد المراد، وكذا مع اتحاده؛ لأنّ المتعلق لا تأثير له في ماهية الإرادة والكراهة، وإنّما هو مؤثر في تشخيصها وإبرازها، فلا يحصل التضاد والتباعد بين الإرادة والكراهة لمجرد تعدد المراد؛ لعدم طرد ما يوجب انقلاب ماهيتهما وتبدلهما إلى متضادين بعد أن كانتا ملتئمتين مجتمعتين في صورة التعدد، فليس للمراد دور إلاّ في تشخيص الماهية، ولا تأثير له في قوامها وحقيقتها، وعدم اجتماعهما ليس للتضاد بين ماهيتهما، بل قد يكون لأسباب أخرى، كعدم قدرة النفس على الجمع بينهما. هذا بلحاظ الموضوع، وأمّا بلحاظ المتعلق فلا تضاد بينهما أيضا؛ إذ ليس متعلقهما الفعل الخارجي، بل هو الوجود الفرضي العنواني، وما كان في أفق النفس يستحيل تقومه بخارجها، وإلاّ لزم انقلاب ما في النفس إلى الخارج، مع أ نّه قد يحصل الشوق والإرادة إلى شيء لا وجود له خارجا، فليست الإرادة والكراهة من أوصاف الفعل الخارجي حتى يمكن اتصافهما بالتضاد. ولكي تقف على كلام المحقّق الأصفهاني بنفسك لا بأس بنقل عبارته في هذا المجال، حيث قال: «لا مانع من اجتماع إرادات [متعددة] وكراهات كذلك في زمان واحد؛ لبساطة النفس وتجردها، فلا تضيق النفس عن قبول إرادات متعددة أو كراهات كذلك في زمان واحد. لايقال: الوجدان شاهد على قيام إرادات متعلقة بأمور متعددة لا بأمر واحد، وكذلك قيام الإرادة والكراهة بالإضافة إلى أمرين، لا بالنسبة إلى أمر واحد. لأنا نقول: متعلق الإرادة مشخِّص فردها لا مقوّم طبيعتها وحقيقتها، والعبرة في التضاد والتماثل بنفس الحقيقة، والتشخص تشخص المتضادين والمتماثلين، موجودان من حقيقة واحدة متماثلان، ووجودان من حقيقتين بينهما غاية البعد والخلاف متضادان، والمتعلق أجنبي عن الحقيقة. والغرض عدم لزوم اجتماع الضدين والمثلين بالنسبة إلى موضوع النفس لا عدم محذور آخر أحيانا، هذا حالهما من حيث الموضوع. وأمّا من حيث المتعلق فنقول: لا ريب أنّ الشوق المطلق ـ مثلاً ـ لايوجد في النفس، بل يوجد متشخصا بمتعلقه، ويستحيل أن يكون الخارج عن أفق النفس مشخّصا لما في أُفق النفس، وإلاّ لزم إمّا كون الحركات الأينية والوضعية القائمة بالجسم نفسانية، أو كون الإرادة النفسانية من عوارض الجسم، خصوصا في الإرادة التشريعية، فإنّه كيف يعقل أن تكون الحركات القائمة بالمكلّف مشخّصة لإرادة المولى؟!... مضافا إلى أنّ طبيعة الشوق ـ بما هو شوق ـ لاتتعلق إلاّ بالحاصل من وجه والمفقود من وجه؛ إذ الحاصل من جميع الجهات لا جهة فقدان له كي تشتاق إليه النفس، والمفقود من جميع الجهات لا ثبوت له بوجه كي يتعلق به الشوق، فلابدّ من حصوله بوجوده العنواني الفرضي ليتقوّم به الشوق، ولابدّ من فقدانه بحسب وجوده التحقيقي كي يكون للنفس توقان إلى إخراجه من حدّ الفرض والتقدير إلى حدّ الفعليّة».[٤٣] لكن لو فرض صحة هذا الكلام فهو مبتن على جواز اجتماع منشأ الإرادة والكراهة، وهما المصلحة أو المفسدة الغالبتين. [٤٤] وعلى أي حال فالمعروف استحالة اجتماع الإرادة والكراهة في هذه المرحلة، بل نُسب ذلك إلى الأشعرية أيضا، رغم اعتقادهم بجواز التكليف بغير المقدور؛ لأ نّه هنا من التكليف غير المقدور. [٤٥] وأورد على نسبة ذلك إلى الأشعرية: أولاً: أنّ التكليف بالمحال يؤول إلى التكليف المحال؛ لأنّ طلب المحال لابدّ أن يكون مسبوقا بإرادة المحال، وهي لا تتحقق في نفس المولى، فيرجع طلب المحال إلى الطلب المحال، ولا معنى للتفكيك بين الطلبين. وثانيا: أنّ الأشعرية وإن كانوا يعتقدون بعدم إمكان اجتماع الحب والبغض في شيء واحد، إلاّ أ نّهم لايمانعون من صدور الأحكام الشرعية جزافا من دون حب أو بغض، فلا يكون التكليف محالاً باعتقادهم ليضطروا الى الالتزام بعدم الاجتماع[٤٦]، ولو كانوا ملتزمين حقا بذلك فقد تكون له أسباب أخرى غير مسألة الطلب المحال.

4 ـ مرحلة التنجّز

وهي مرحلة وصول الحكم إلى المكلّف وتنجزّه في حقه، فاجتماع الحكمين في هذه المرحلة يستلزم التكليف بالمحال؛ لعدم تمكّن المكلّف من امتثالهما معا. [٤٧]

الأمر الثاني: التنافي بين الأحكام الظاهرية

إلى هنا كان الكلام حول التنافي بين الأحكام الواقعية واستحالة الجمع بينها، وأمَّا الأحكام الظاهرية فالحكم عليها بذلك يختلف باختلاف المبنى في تصوير الحكم الظاهري، والتوفيق بينه وبين الأحكام الواقعية، فإن أخذنا بوجهة النظر القائلة بأنَّ مبادئ الحكم الظاهري ثابتة في نفس جعله لا في متعلقه، أمكن جعل حكمين ظاهريين بالإباحة والحرمة معا، بشرط أن لايكونا واصلين معا إلى المكلّف؛ لعدم التنافي بينهما في هذه الحالة لا بلحاظ نفس الجعل باعتباره مجرد اعتبار، ولا بلحاظ المبادئ لتعدُّد مركزها، لأنّ مبادئ كلّ حكم في نفس جعله لا في متعلقه، ولا بلحاظ عالم الامتثال والتنجيز والتعذير؛ لأنَّ أحدهما على الأقل غير واصل إلى المكلّف، فلا أثر عملي له، خلافا لما إذا كانا قد وصلا إليه، فإنَّ التنافي يكون حينئذٍ ثابتا بينهما، لأنَّ أحدهما ينجّز والآخر يؤمّن. وأمَّا على المسلك القائل بأنّ الأحكام الظاهرية خطابات لتحديد الأهم من الملاكات الواقعية المختلطة، فالتنافي يكون حينئذٍ ثابتا بينهما، سواء وصلا إلى المكلّف أو لم يصلا إليه؛ لأنَّ الأوَّل يثبت أهمية ملاك المباحات الواقعية، والثاني يثبت أهمية ملاك المحرّمات الواقعية، ولايمكن أن يكون كلّ من هذين الملاكين أهم من الآخر، كما هو واضح. [٤٨]

الأمر الثالث: اجتماع الأحكام الوضعية

لا إشكال في اختلاف الأحكام الوضعية عن الأحكام التكليفية في إمكان اجتماع بعضها في شيء واحد، كاجتماع الطهارة والملكية في ثوب واحد. وإن كانت كالأحكام التكليفية في عدم اجتماع بعضها الآخر، كالنجاسة والطهارة اللتين لايجتمعان في شيء واحد كالثوب في المثال المذكور؛ لأ نّه إمّا أن يكون طاهرا، وإمّا أن يكون نجسا. وما ذكره بعض من أنّ الأحكام الوضعية كالأحكام التكليفية في تضادها مع بعضها[٤٩] ناظر إلى هذا النوع من الأحكام. ولعلّ عدم اطراد التضاد في الأحكام الوضعية هو الذي دعا الأعلام إلى عدم إدخالها في بحث التضاد في الأحكام، بل لم يتعرض لها من كان بصدد بيان حالات الأحكام الشرعية بصورة عامة، كالسيد الصدر الذي تعرض للتضاد بين الأحكام التكليفية تحت عنوان «التضاد بين الأحكام التكليفية»[٥٠]، وترك الكلام عن الأحكام الوضعية وكأ نّها ليس فيها تضاد. ويمكن أن يكون السبب أيضا هو أنّ التضاد المدّعى بين بعض الأحكام الوضعية ليس إلاّ من قبيل التقابل بين الشيء وعدمه، وهو ممّا لا علاقة له ببحث التضاد بين الأحكام مع بعضها بعض، بل بين الشيء ونقيضه، وقد يلوح ذلك من المحقّق النائيني ضمنا، عندما قال في بحث العقد الفضولي: «ثمّ لا يخفى ما في جوابه عن اجتماع مالكين في ملك واحد؛ لأنّ اختلاف زمان اعتبار الملكية لاثنين لايدفع إشكال اجتماع المالكين في ملك واحد في زمان واحد، فإنّ اختلاف زمان الاعتبار بمنزلة اختلاف زماني الإخبار بوقوع المتناقضين في زمان واحد، وبمنزلة اختلاف الحكم بحكمين متضادين، فإنّ حكم الحاكم في يوم الجمعة بكون عينٍ شخصيّةٍ لزيد في هذا اليوم، مع حكمه في يوم السبت بكون شخص هذا العين في يوم الجمعة لبَكرٍ متناقض».[٥١]. وممّا يساعد على هذا الاحتمال تعبير بعض عن الطهارة بعدم النجاسة[٥٢]، وإن كان يضعّفه تعبير آخرين بأ نّها أمر وجودي. [٥٣]

الأمر الرابع: الموارد التي وقع الكلام في اجتماع الحكمين فيها

لمّا كان اجتماع الحكمين أمرا مستحيلاً لدى الجميع، فقد تحذروا من التورط فيه في مسائل متعددة من علم الأصول، كمسألة التعارض والتزاحم، واجتماع الأمر والنهي، واجتماع الحكم الظاهري والواقعي، وهو ما نحاول الإشارة إليه هنا باختصار، تاركين التفصيل إلى محلّه، وذلك كما يلي:

1 ـ الاجتماع في باب التعارض والتزاحم

التعارض: هو التنافي بين الدليلين، أو مدلولي الدليلين، بحيث يعلم عدم واقعية أحدهما. وتنافيهما إمّا بنحو التناقض، كما لو دلّ أحدهما على الإيجاب والآخر على العدم ، وإمّا بنحو التضاد ، كما لو دلّ أحدهما على الوجوب والآخر على الحرمة. [٥٤] وأمّا التزاحم: فهو التنافي بين الأحكام التكليفية الإلزامية في مقام الامتثال؛ لضيق قدرة المكلّف على امتثالها في هذا المقام، بعد إنشائهما على موضوعهما مع وجود تمام الملائمة بينها في مرحلة التشريع. فالتزاحم يشترك مع التعارض في عدم إمكان الاجتماع، إلاّ أ نّه في باب التعارض يرجع إلى مرحلة الجعل والتشريع؛ لامتناع جعل حكمين متنافيين على مورد واحد؛ لاستلزامه اجتماع الضدين أو النقيضين، بينما يرجع في باب التزاحم إلى مرحلة الامتثال[٥٥]، وفي تقديم أحد المتزاحمين، أو أحد المتعارضين، أو التخيير بينهما، أو التساقط، كلام مذكور في محلّه.

2 ـ اجتماع الأمر والنهي

اختلف الأصوليون في جواز اجتماع الأمر والنهي، الذي هو الالتقاء الاتفاقي بين المأمور به والمنهي عنه في فعل واحد، عند تعلق الأمر بعنوان وتعلق النهي بعنوان لا علاقة له بالآخر، كالأمر بالصلاة والنهي عن الغصب المجتمعين في الصلاة في الأرض المغصوبة، فمن اختار جواز الاجتماع حاول التخلص من شبهة اجتماع الحكمين المتضادين، عن طريق إثبات عدم سراية حكم أحد العنوانين إلى الآخر، أو عن طريق إثبات تعدّد المعنون بتعدّد العنوان بالدقة العقلية، فتصير الصلاة في الأرض المغصوبة على هذا الأساس كالأمر بالصلاة والنهي عن النظر إلى الأجنبية، وهما ممّا لا كلام في جواز اجتماعهما؛ لتعدّد معنونهما بتعدد العنوان. وأمّا القائلون بامتناع اجتماع الأمر والنهي، فلا يرون تعدّد العنوان مؤثرا في تعدّد المعنون، ولا في المنع من سريان حكم أحد العنوانين إلى الآخر. [٥٦] وعليه، فاجتماع الأمر والنهي يدخل في باب التزاحم على القول بجواز الاجتماع، لانحفاظ الحكمين وبقاء ملاكيهما، ويدخل في باب التعارض على القول بالامتناع؛ للقطع بعدم جريان أحد الدليلين في مورد الالتقاء. [٥٧]

3 ـ اجتماع الحكم الظاهري والواقعي

وهو أيضا من الموارد التي وقع البحث في إمكان اجتماع الحكمين فيها، حيث بذلت محاولات عديدة في توجيه اجتماعهما؛ إمّا عن طريق التأكيد على عدم اتحادهما رتبة، أو عن طريق تنزيل الحكم الظاهري منزلة الحكم الواقعي، فأن أصاب فلا تضاد، وإن أخطأ فلا تضاد أيضا؛ لانكشاف عدم وجود حكم واقعي، فلا يلزم التضاد المزعوم.

المصادر

  1. المستصفى 1 : 91، 94، بيان المختصر 1 : 378، التحبير شرح التحرير 2 : 952 ـ 953، تقريرات المجدّد الشيرازي 4 : 149، نهاية الأصول 1 ـ 2 : 257.
  2. الذريعة 2: 674، 680.
  3. الذريعة 2: 674، 680.
  4. درر الفوائد الحائري 1 ـ 2 : 151.
  5. مشارق الشموس : 61.
  6. نسبه إلى المشهور في كفاية الأصول : 202.
  7. المستصفى 1 : 91 ، الرسائل الفقهية البهبهاني: 317، فواتح الرحموت 1 : 105، أجود التقريرات 2 : 146، منتقى الأصول 3: 84 .
  8. نقله الأصفهاني في بيان المختصر 1 : 378 عن جماعة يعتقدون جواز التكليف المحال.
  9. نقل ذلك الأصفهاني عن بعضهم في بيان المختصر 1 : 378.
  10. سورة البقرة، الآیة 286
  11. انظر : فوائد الأصول 1 ـ 2 : 388.
  12. مناهج الوصول 2 : 136.
  13. المبسوط السرخسي 12 : 116، القوانين المحكمة : 67، مفاتيح الأصول : 538، الفصول الغروية : 128، كفاية الأصول : 158، بحوث في علم الأصول (الهاشمي) 3 : 79.
  14. الرسائل الفقهية البهبهاني : 317.
  15. القوانين المحكمة : 67، درر الفوائد الحائري 1 ـ 2 : 151.
  16. راجع : شرح مختصر المنتهى 2 : 204، حيث قال : فلو اتحد الواحد بالشخص «بأن يكون الشيء الواحد من الجهة الواحدة واجبا حراما فذلك مستحيل قطعا». وانظر : التحبير شرح التحرير 2 : 946.
  17. التنقيح في شرح العروة الوثقى 5 : 79.
  18. انظر : محاضرات في أصول الفقه 4 : 306.
  19. كتاب الطهارة الأنصاري 2 : 152.
  20. دروس في علم الأصول 1 : 343.
  21. نسب ذلك إلى جمع من الأعلام في تحريرات في الأصول 6 : 228.
  22. نهاية الدراية 2 : 308.
  23. مناهج الوصول 2 : 136 ـ 137.
  24. الفصول الغروية : 91.
  25. تهذيب الأصول 1 : 399 ـ 400 بتصرُّف.
  26. تهذيب الأصول 1 : 400 بتصرُّف.
  27. هذه المراتب بناءً على ما ذكره المحقّق الخراساني في كفاية الأصول  : 258 . خلافا لما ذهب إليه بعض من أنّ مراتب الحكم منحصرة بمرتبتين  : مرتبة الإنشاء ، ومرتبة الفعلية ؛ لأنّ الاقتضاء من مقدماته ، والتنجز من آثاره . راجع  : أنوار الهداية 1  : 38ـ39 .
  28. كالسيد الروحاني في منتقى الأصول 3 : 83 ـ 85 .
  29. كالسيد الخوئي الذي حصرها بمرحلة الإرادة والتنجز . راجع  : محاضرات في أصول الفقه 4  : 248 ـ 249.
  30. انظر : كفاية الأصول : 158، منتهى الدراية 3 : 172.
  31. منتقى الأصول 3 : 82 .
  32. محاضرات في أصول الفقه 4 : 248 ـ 249، دروس في علم الأصول 1 : 178، المحكم في أصول الفقه 2 : 355.
  33. محاضرات في أصول الفقه 4 : 248 ـ 249.
  34. منتقى الأصول 3 : 83 ـ 84 .
  35. فوائد الأصول الخراساني: 17، محاضرات في أصول الفقه 1: 88 .
  36. منتقى الأصول 3 : 84 .
  37. محاضرات في أصول الفقه 4 : 248.
  38. المصدر السابق.
  39. وفي كلام المحقق الخراساني دلالة على ذلك، حيث فسَّرها بالإرادة النبوية أو الولوية. كفاية الأصول : 278 وانظر : عناية الأصول 2 : 56.
  40. انظر : كفاية الأصول : 158، تهذيب الأصول الخميني 1 : 400، تحريرات في الأصول 6 : 228، منتقى الأصول 3 : 85 ،
  41. انظر : محاضرات في أصول الفقه 4 : 247 ـ 249.
  42. نهاية الدراية 2 : 308 ـ 309.
  43. نهاية الدراية 2 : 311 ـ 312.
  44. منتقى الأصول 3 : 83 .
  45. انظر : نهاية الأصول 1 ـ 2 : 252 ، محاضرات في أصول الفقه 4 : 164.
  46. تحريرات في الأصول 4 : 114.
  47. محاضرات في أصول الفقه 4 : 247 ـ 249.
  48. دروس في علم الأصول 1 : 36.
  49. محاضرات في أصول الفقه 4 : 370، وانظر : المبسوط السرخسي 12 : 37، 218 و19 : 32.
  50. دروس في علم الأصول 1 : 178.
  51. منية الطالب في شرح المكاسب 2 : 66.
  52. انظر : الإنصاف المرداوي 1 : 21، كتاب الطهارة (الأنصاري) 1 : 348.
  53. انظر : زبدة الأصول الروحاني 4 : 75.
  54. انظر : بحوث في علم الأصول الهاشمي 7 : 13.
  55. فوائد الأصول 4 : 704.
  56. أصول الفقه المظفر 1 ـ 2 : 376 ـ 381، وانظر: المستصفى 1 : 79.
  57. انظر : المستصفى 1 : 91 ـ 96، فوائد الأصول 1 ـ 2 : 429، حقائق الأصول 1 : 362، محاضرات في أصول الفقه 3 : 342 ـ 354، المهذّب في علم أصول الفقه المقارن 1 : 302