أدلّة البراءة

من ویکي‌وحدت

أدلّة البراءة: أي البراءة من التکليف، والمراد بالبراءة في محلّ الكلام هو أصالة البراءة في إطلاقات علماء الاُصول، وهو حكم العقل بقبح عقاب المكلّف على مخالفة التكليف الواقعي عند الشكّ وعدم البيان، أو حكم الشرع برفع الحكم أو آثاره عند الجهل والشكّ في مقام الظاهر والعمل. وهذا الأصل بهذا العنوان (أي عنوان: أصالة البراءة) غير مطروح في أصول أهل السنّة، وما يوجد أحيانا له في كلماتهم فظاهر في الاستصحاب أو البراءة الأصلية أو الإباحة.

أدلّة البراءة

قد استدلّ على أصل البراءة بالعقل والنقل:

1 ـ دليل العقل

ومجمله أنّ العقل يستقلّ بقبح عقاب المكلّف على مخالفة تكليفه قبل وصول التكليف إليه بعد الفحص اللازم. وهذا ما ذهب إليه المشهور من الاُصوليين[١]، بل قد كادت أن تكون إجماعية في العصر الثالث من عصور علم أصول الفقه، أي منذ زمن الوحيد البهبهاني[٢].
وقد ذكر في توضيح ذلك وجوه:
الأوّل: الإحالة إلى الوجدان العرفي في باب المولويات العقلائية، حيث نرى أنّهم لا يؤاخذون على ارتكاب مخالفة التكليف الواقعي في موارد الجهل وعدم العلم بالحكم الواقعي، وهذا بنفسه منبه على ارتكازية هذه القاعدة وعقليتها[٣].
الثاني: ما ذكره النائيني من أنّ الحكم بوجوده الواقعي لا اقتضاء فيه للتحرك نحو امتثاله ولا للانزجار منه، بل المقتضي للتحرك إنّما هو وصول الحكم الموجب لإرادة المكلّف، فالبعث بوجوده العلمي موجب للانبعاث، لا بوجوده الواقعي، فكما أنّ الأسد الخارجي بنفسه لا يوجب التحرز والفرار، وإنّما يوجب ذلك إذا عُلم به فكذلك الحرمة المجعولة من الشارع لا يترتّب عليها انزجار إلاّ بعد وصولها، فالعقاب على ترك التحرك عند عدم وجود المقتضي له قبيح[٤].
الثالث: ما ذكره المحقّق الاصفهاني من أنّ مخالفة تكليف تم عليه البيان يعتبر خروجا من زيّ العبودية وهو ظلم لِلمولى وقبيح عند العقل، وأمّا مخالفة ما لم تتم عليه الحجة والبيان فليس ظلما ولا يستحقّ فاعله العقاب[٥].
وقد أورد على الأوّل بابتناء ذلك على لحوق المولى الحقيقي ـ أي اللّه‏ تبارك وتعالى ـ بالموالي العرفية في حقّ الطاعة، وأن يكون حقّ الطاعة بما هو مدرك من المدركات العقلية أمرا واحدا لا درجات له ولا مراتب، وهو أوّل الكلام، بل قد يدعى خلافه وأنّ المولويات العرفيّة والعقلائية مجعولة غير ذاتية أو تكون بملاكات ضعيفة ولذلك لا تصير داعيا وباعثا إلاّ بالوصول، وهذا بخلاف المولوية الذاتية الحقيقية للمولى الحقيقي، والذي تكون مولويته بملاك بالغ كامل مطلق، وهو المنعميّة، بل المالكيّة، ولذلك لا يرى العقل أيّ قصور في مولويته وحقّ طاعته، فلا قصور فيه حتّى بالنسبة للتكاليف الواقعيّة المحتملة[٦].
كما أورد على الوجه الثاني والثالث ـ مبنيّا على ما ذُكر من الإشكال ـ بإنكار عدم كون التكليف المحتمل الذي لم يتمّ عليه البيان مقتضيا للتحرّك بالنسبة للمولى الحقيقي الذاتي، وبالتالي إنكار عدم كون المخالفة تجاه التكليف المحتمل خروجا عن زي العبودية وظلما تجاه المولى عزّ وجلّ.
فاللازم على الجميع قبل البحث عن نفس هذه القاعدة البحث في أنّ حقّ الطاعة للمولى الحقيقي ـ الذي هو مدرك للعقل العملي ـ هل ينحصر في دائرة التكاليف المعلومة أو لا ينحصر فيها، بل يشمل مطلق التكاليف حتّى المحتملة، وقد ادّعى الشهيد الصدر بعدما مرّ من الإيرادات بأنّ المولوية الذاتية للّه‏ سبحانه لا تختصّ بالتكاليف المعلومة بل تشمل مطلق التكاليف الواصلة ولو احتمالاً، وهذا من مدركات العقل العملي ووجدانياته[٧].
وتفصيل الكلام في قاعدة «قبح العقاب بلا بيان» وكيفية جمعها مع قاعدة «لزوم دفع الضرر المحتمل» وسائر ما قيل في هذا المجال متروك إلى التفاصيل الاُصولية[٨].

2 ـ دليل النقل: وهو الآيات والأخبار

من الآيات قوله تعالى: «وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً».[٩] بتقريب أنّ بعث الرسول كناية عن بيان الأحكام واتمام الحجّة على المكلّفين بوصولها إليهم[١٠]. وقوله تعالى: «لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا»[١١] بدعوى أنّ سعة الموصول يشمل التكليف بالإطلاق كما يشمل المال والفعل، فيدلّ على أنّه تعالى لا يكلّف بتكليف إلاّ إذا آتاه، وإيتاء التكليف معناه عرفا وصوله إلى المكلّف[١٢] وقوله تعالى: «قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ...».[١٣] حيث تدلّ على أنّ مجرّد الوجدان كافٍ في إطلاق العنان[١٤] وغيرها[١٥].
وأمّا الأخبار فمنها حديث الرفع المروي عن النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله: «رفع عن اُمتي تسعة: الخطأ والنسيان وما اكرهوا عليه، وما لا يعلمون و...»[١٦]. بتقريب أنّ الاُمور المرفوعة في الحديث غالبها اُمور تكوينية غير قابلة للرفع تكوينا. فمن الواجب بذل عناية في تصحيح هذا الرفع، إمّا بتقدير أمر قابل للرفع ـ كالحكم، أو المؤاخذة ـ وإمّا بجعل الرفع منصبّا على نفس هذه الأشياء، لكن بلحاظ وجودها في عالم التشريع، أو جعله رفعا تنزيليا وادعائيا، ويكون بهذه الاعتبارات حاكما على أدلّة الأحكام الأوّلية باعتبار نظره إليها موضوعا أو محمولاً على ما فصّله بعضهم[١٧]، فيكون الالزام المحتمل مرفوعا في مرحلة الظاهر[١٨].
ومنها حديث الحجب، وهو ما روي عن أبي عبداللّه‏ عليه‌السلام قال : « ما حجب اللّه‏ علمه عن العباد فهو موضوع عنهم »[١٩].
ومنها حديث الإطلاق: وهو قول الصادق عليه‏السلام: «كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي»[٢٠]. وغيرها ممّا استدلّ بها على البراءة، وتفصيل الكلام فيما أورد عليها، واُجيب عنها وفي مدى دلالتها، وما ورد من أخبار الاحتياط التي تعتبر كمعارض لها متروك إلى المفصّلات الاُصولية.

المصادر

  1. . أنظر: دروس في علم الاصول 2: 329.
  2. . أنظر: بحوث في علم الاصول 5: 23.
  3. . أنظر: المصدر السابق 5: 26.
  4. . أجود التقريرات 3: 323 ـ 324، مصباح الاُصول 2: 283.
  5. . نهاية الدراية 6: 213 وما بعدها.
  6. . أنظر: بحوث في علم الاصول 5: 26.
  7. . أنظر: بحوث في علم الاصول 5: 26 ـ 28، دروس في علم الاصول الحلقة الثالثة 2: 335 ـ 336.
  8. . أنظر: أجود التقريرات 3: 325، مصباح الاُصول 2: 283 ـ 285.
  9. . الإسراء: 15.
  10. . مصباح الاُصول 2: 255.
  11. . الطلاق: 7.
  12. . دروس في علم الاصول، الحلقة الثالثة 2: 340.
  13. . أنظر: الأنعام: 145.
  14. . دروس في علم الاصول 2: 340.
  15. . أنظر: التوبة: 114.
  16. . أنظر: الوسائل 15: 369، باب مما عفي عنه 56 من ح1.
  17. . أنظر: دروس في علم الاصول 2: 343 ـ 344.
  18. . أنظر: مصباح الاُصول 2: 257.
  19. . الوسائل 27: 163، ب 12 من القضاء ح 33.
  20. . الوسائل 6: 289، ب 19 ح 3.